الأستاذ بجامعة حلوان 

" />
رأى

من مباغتة الانكسار إلى استفاقة الإرادة والتحدي

2Q==

         بقلم: الدكتور نجيب عثمان أيوب      

             الأستاذ بجامعة حلوان 

 

كان هجومُ الخامسِ من شهرِ يونيو ١٩٦٧المُباغت لنا، علامةً فارقةً في تكوين الشخصية العربية عموما والمصرية على وجه الخصوص. لقد كانت هذه النكسةُ لطمةً على صفحة الخريطة العربية، غيَّرت خطوط حدود المنطقة الساخنة فيها، وأخرجت الذهنية العربية من أوهام تغشتها منذ يوليو ١٩٥٢، فيما كان يُسَمَّى مبالغةً ووهمًا كما رأى البعضُ بـ (المشروع النهضوي القومي الباعث لأمجاد العروبة)؛ فبَدَّلَت كثيرًا من تَكْتِيكات خِطط الأنظمة قصيرة المدى، واستراتيجياتها بعيدة النظرة.

والمُراقب الواعي لمسارات الخطاب العربي الرسمي والشَعْبَوِي عقب هذه الصفعةِ المُدَوِّيةِ، يرى عجبًا من تَرَاشُقِ تيارات التناقض التي حَبُلَت بها المنطقة؛ فأتأمت وأنتجت غُلمان شؤم للبلاد، في ظل حكم النُظُمِ الشمولية، وأساليب القمع ذات السيطرة الشكلية والوعود الوهميَّة والآفاق الضيقة؛ مما يستدعي قراءةً متأنيةً لتأملِ المشهد السياسي والإعلامي والثقافي للمنطقة العربية بشكل عام، وبين المصريين بشكل خاص؛ ذلك لتجاوز السلبيات واستثمار الإيجابيات.

لقد فاجأ الكيانُ الصهيونيُ الصغيرُ، وليد الأمس القريب، وربيب قوى الاستعمار الذي منحه ما لا يملكه دون استحقاق يُوثقه تاريخ المنطقة أو يُقِرُّه القانون الدولي المُنصف، أربابَ المنطقة المُسْتَلَبين بالوعود الواهمة المغرورة، المستغرقين في روايات أمجاد الماضي التليد، فباغتهم بهجوم خاطف كالبرق، على جبهات كل من مصر وسوريا والأردن، ومعهم فدائيوا فلسطين وصفوف من الجيش العراقي الشقيق، فيما سماه الكاتب المصري محمد حسنين هيكل بـ(نكسة يونيو) وسماه السوريون والأردنيون بـ(نكسة حزيران)، وسماه إعلام الكيان الصُهيوني بالعبرية (ملحمت شيشيت هياميم) أي حرب الأيام الستة، أي من الخامس إلى العاشر من يونيو حزيران ١٩٦٨، وأسفرت عن نتائج غيَّرت جغرافيا الحدود؛ حيث وضع الكيان يدَهُ على شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجُوْلان السورية، وقطاع غزة والضفة الغربية من أرض فِلَسطين المُحتَلة.

وقد أدت هذه المباغتة الخاطفة، إلى مقتل ما يتراوح بين ١٥٠٠٠ إلى ٢٥٠٠٠ شخص من العرب، مقابل ٨٠٠ صهيوني فقط، وتدمير من ٧٠ إلى ٨٠٪ من العتاد الحربي العربي، مقابل من ٢ إلى ٥٪ من قدرات الكيان الصهيوني الوليد، إلى جانب نسب مشابهة في أعداد الأسرى والمجروحين على طرفي النزاع، كما كانت سببًا في تهجير سُكَّان مدن قناة السويس المصرية، ومدينة القنيطرة السورية، وعشرات الآلاف من سُكَّان غزةَ والقطاعِ الفلسطينيين، واختفاء قرىً فلسطينية بأكملها من على الخريطة تماما؛ لتحلَّ محلها مستوطناتُ الكيان في القدس الشرقية وقطاع غزة وسيناء.

لقد فاجأ تسعةٌ من قادة الكيان الصهيوني هم: (إسحاق رابين، وموشيه دايان، وعوزي ناركسي، وموردخاي غور، ويسرائيل طال، ومردخاي هود، ويشعياهو غافيش، وأريل شارون، وعايزرا فايتسمان) كلاً من: (عبدالحكيم عامر، وعبدالمُنعم رياض) المصريين، و(زيد بن شاكر، وأسعد غنما) الفلسطينيين، و(نور الدين الأتاسي، وحافظ الأسد، وأحمد سويداني، وعبدالرحمن عارف، وشاكر محمود شكري) القادة السوريين؛ لتقع الفجوات بين الكيانات السياسية في هذه الأقطار العربية، وقواتها المسلحة، مما أحدث شروخًا كبيرةً في جدارها الوطني، على غِرار ما وقع بين الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر، بقيادة جمال عبدالناصر ومراكز قُوَاه، وبين الجيش المصري بقيادة عبدالحكيم عامر، ودفع عامر فاتورة هذه الذَلة وعواقبها، وعلى الرُغم مما تم تعديله من أوضاع على مر السنوات الست والخمسين الفائتة منذ هذه النكسة، إلا أن آلامها، ما زالت ممتدةً جاسمة على صدر الواقع العربي، وما زالت تسكنُ النفسية العربية، وتُسيطرُ على آليات دواخلها العقائدية السياسية والثقافية، وتتجلى واقعًا وانعكاسا واضحًا ملموسًا في الارتباك الحركي السياسي والدبلوماسي بين جموع العرب (أنظمة وجماهير، جماعات وأفراد)؛ مما يُحتِّم نظراتٍ تأمليةً أكثر هدوءًا وحكمةً في تشخيص هذا الحدث الجَلَل ونتائجه.

والذي لا يقل أهميةً من حدث مداهمة مدافع نابليون بونابارت سنة ١٧٨٩، لصفحة وجه أبي الهول، لتصير الهزيمة العسكرية لمصرَ وللشرقِ، نصرًا حضاريًا بإيقاظ المصريين والعرب، من ثُباتِهم الحضاري وتخَلُّفِهم المدني وَوَهْمِ ثقافتهم التاريخي؛ هذا الربط مهم؛ لنتمكن من تشخيص واقعنا ووضع الحلول وخططها، بدقةٍ ووعي، حتى نُحَوِّلَ هذه المِحنة العسكرية، إلى منحة حضارية على صفحة تاريخنا الحديث والمعاصر.

 لقد كانت نكسةُ يونيو/حزيران، جرسَ إنذارٍ نبهنا للكثير من عَوَارِنا الثقافي والسياسي، وقصورِ مُقَدِّراتِنا العسكرية وكفاءاتنا البلوماسية والعلمية والتِقَنِيَّة.. إلخ، وكان من نتائجها في واقعنا ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي، فكان منها على سبيل التمثيل:                               

1-  الاستفاقة من أوهام بلاغة الخطاب التأثيري العاطفي، خلال فترة الحزب الواحد والقائد الأسطوري المُلْهَم المُلْهِم؛ مما أدى إلى لجوء الرئيس محمد أنور السادات، إلى الأداء الواقعي بالفِكاكِ من المعسكر الشرقي الاشتراكي وطرد الخبراء الروس، والتوجُّه نحو الغرب الليبرالي بوعوده، بما عدَّه البعضُ رِدةً سياسيةً عن درب سلفه ورفيق نضاله الرئيس عبدالناصر، وما ترتب على ذلك من نتائج فرعية نتعرض لأهمها في كتابات لاحقة.  

2 – موضعةُ النظرةِ السياسيةِ والأداءِ الدبلوماسي (نظاميًا) فيما يَصُبُّ أولا للصالح المصري، في مقدمة الأولويات مع مراعات القضايا العربية والإسلامية والأفريقية فيما بعد، ومجافاة أحلام الزعامة التَوَسُّعِيَّة والحروب التطوعية بالنيابة، خارج نطاق الهم الوطني المصري وصالح شعبه ومصيره.

3 – إعادة النظر (جماهيريا) في الأيديولوجيات اليسارية الشرقية الوافدة خلال حِقبة الاتحاد الاشتراكي العربي وأحزاب البعث القومية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، لتحل محلها، التَوَجُّهات اليمينيَّة من: الليبرالية الوافدة من جهة الغرب، بجوارالنزعات الأصولية الإسلامية المتدفقة من جهة الشرق الأدنى (الخليج النفطي).

4-  افتقاد الثقة في قِمم الأنظمة العربية، والتَجَرُؤ النقديُّ الفَجّ على رموزها بشكل عفوي عاطفي، تلفُه المِسحة الدينية الممتطية للخطاب السياسي المؤدلج.

  5- أدت هذه النكبة إلى اتساع هُوةِ الشرخ السياسي بين الأطياف الثقافية، ليرجمَ بعضُهم بعضًا بالمسئولية عن الهزيمة، وعِللها من الانحطاط الفكري والتخلف من ناحية، والعمالة والتبعية للآخر على الناحية الأخرى، لتتجلى أزمة الانشطار الثقافي المُهيمن على كافة أطياف المجتمع، بين تنويري تقدمي يَدَّعي الطموح والعبور للمستقبل، وآخر إصلاحي محافظ يدعي الأصالة وحماية الهُوِية.

6-  لقد شحذت نكسة يونيو الهِمة، وحركت نوازع الإرادة لدي الجماهير والمؤسسات؛ مما تَمَخَّض عن حرب الاستنزاف الممتدة لسنواتٍ عديدة وعنيدةٍ، والتي كَبَّدت العدو كبير الخسائر المعنوية والمادية، كما تمخضت عن عبور أكتوبر العظيم، لتتجاوز عبور المانع المائي والحاجز الترابي وخط بارليف نحو الشرق المسلوب واسترداده، إلى عبور الذات الثقافية العربية والمصرية المنهزمة، نحو الثقة المُسْتَرَدَّة بعد غياب طال.

    7-  تَشَتُّت مسارات العمل السياسي بين الأنظمةِ العربية، وبخاصة بعد معاهدة السلام الذي أبرمها الرئيس المصري محمد أنور السادات، مع الكيان الصُهيوني بإشراف ورعاية أمريكية.                 

وبعد، فهذه الآثار تُعَدُّ بعضًا من كلٍ ونأمُلُ أن نكتبَ حول كل منها على حدةٍ، في مقالات لاحقة أكثر استيفاءً للتفاصيل، خلال شهر يونيو حزيران الراهن، وبعد مرور نحو ستٍ وخمسين سنةً، على ما سميناه نحن بـ (النكسة) وسماه الصهاينة بـ (ملحمت شيشيت هياميم) أي حرب الأيام الستة.

                 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى