عمر النجار يكتب : تعلمت النحت على النحاس و عشقت الفن اليونانى القديم و أحلم بنحت جدار من النحاس المنقوش بمدخل المتحف الكبير

عمر النجار فنان استثنائى يضع لمساته الفنية محفورة على لوحات نحاسية مقببة بفن جذوره يونانية قديمة كاد أن يندثر.
يكتب الفنان عمر النجار لأخبار الساعة عن تجربته الإنسانية و الفنية :
عشت عمرى كله مكافحا فى طريق الفن أحلم باليوم الذى تتاح لى فيه الفرصة و أصنع جدارا من النحاس المنقوش بمدخل المتحف الكبير يصور قصة الحضارة فى مصر
بين خطوط النحاس و نتوءاته المحفورة تسكن روحى، أحقق ذاتى مع كل لوحة نحاسية أنقشها، أضع بصمتى على صفحات المبدعين منذ فجر الحضارة و بزوغ شمس الفن على مر العصور و حتى الآن و أبدا لن يندثر الفن و لن يختنق الإبداع مادامت هناك إرادة و موهبة حقيقية .
فى سن السابعة ذهبت إلى قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية حيث تعلقت عينى بحوائط غرف القصر التى كانت مجلدة بألواح من النحاس المنقوش برسومات بارزة تخطف الأنظار و من وقتها ازداد شغفى بها و كأن شيئا ما ترسخ بداخلى و طلبت من والدى أن يدخلنى مرسم القصر وتابعنى مدرس الرسم بالقصر الأستاذ أحمد عبد الجواد طيب الله ثراه و لفت نظره أنى أنظر باستمرار للوحات النحاس المنقوشة فسألنى إن كنت أعرف هذا, فأجبته أنى لا أعرف و لكنى أحيه و كانت أول مرة أعرف اسمه عندما قال لى أنه “نحاس مأبب” صنعة أمهر صناع من اليونان وإيطاليا والأرمن الذين جلبهم محمد على لبناء مصر الحديثة وسألنى إن كنت أحب أن أتعلم هذا الفن و أجبته فرحا ما شجعه أن يشترى لى قطعا صغيرة من النحاس والألمنيوم وصنع أمامى أدوات بسيطة بيده وبدأت أراقبه وأحلم كيف أكون مثله يوما وفى اليوم التالى وضع أمامى قطعة من النحاس وركب عليها التصميم تمهيدا لتأبيبه ثم تركنى و ذهب للقاء مدير القصر وعندما عاد فوجئ بى و قد رسمت النحاس وقمت بتأبيبة تماما كما رأيته يفعل فى اليوم السابق و انفجرت دهشته و سألنى فى انفعال شديد عمن فعل هذا و لم يصدق أنى من فعلها فوضع أمامى قطعة أخرى و طلب من أن أعيد ما فعلت فرسمتها قبالته فما كان منه إلا أن احتضننى فرحا و أخذنى إلى فنان يونانى الأصل يحترف فن النحاس هذا و يعيش فى منطقة العطارين و أخبرنى أن هذا الرجل كان معلمه فى الكلية و عنما وصلنا إليه وجدته رجلا كهلا يقف فى محل للبقالة,
استقبلنا الرجل بترحاب شديد و بادر المدرس بالقول “أنا جايبلك نبغة صغيرة علشان تخليه زيك محترف” فاعترض الرجل فى بادئ الأمر حتى شاهد ما صنعتة بيدى فاحتضننى و قرر أن يشرف على تعليمى كما طلب منه مدرسى وفعلا بدأ يدربنى بطريقة مختلفة وعرفت وأنا معه أن اسمه أنطوان خانجى اليونانى و أنه آخر المصنعين المهرة فى الرسم البارز على النحاس واستمر التدريب خمس سنوات حتى توفاه الله فكان رحمة الله عليه يشترى النحاس على نفقته الخاصة وكان يغلق محل البقالة ويأخنى معة إلى تجار بيع النحاس لكى أتعلم الشراء وكيف أعرف من شغل النحاس إذا كانت به شوائب أو نقى وبدأت من بعده أعمل حتى أستطيع أن أشترى النحاس وفى ذلك الوقت التحقت بنادى الاتحاد السكندرى لكرة السلة أيام كابتن مدحت وردة وعمرو أبو الخير وتفوقت فى هذه اللعبة حتى أنى كنت مرشحا لمنتخب مصر للناشئين إلا أننى دخلت معهد القوات المسلحة وبدأت الحياة العملية وكنت مدمنا الرسم على النحاس وتخرجت فى مدرسة القوات البحرية واشتغلت فى سلاح المدمرات وكنت أسافر بعثات لليونان وأسبانيا وإيطاليا والسعودية والبحرين والإمارات وسوريا وكنت أذهب لكل بلد وأبحث عن فنانى الرسم على النحاس فكنت أتعجب لحالى عندما لا أجد مثيلا لما أفعل من رسم بارز على النحاس من حيث الحجم والدقة وحينها تذكرت آخر كلمات قالها لى معلمى الفاضل طيب الله ثراه “سيأتى لك يوم تكون فيه المصنف رقم واحد فى العالم وسيأتى يوم ستذكر كلماتى هذه” وكنت أعمل فى صمت حتى أقدمت على إنهاء خدمتى بالقوات المسلحة وكانت ملحمة كبيرة لخروجى مع اعتراض جميع قادتى لنشاطى وابتكارى أشياء كثيرة فى التقنية والمعدات علاوة على أنى كنت أقود الفرق الرياضية التى كانت تحقق انتصارات كثيرة وأخيرا تحقق الحلم وخرجت من الخدمة فى 2014 و مع بداية اليوم التالى أخذت فى أحضانى نموذج لمعشوقى من فن النحاس وقبلته ووعدته أن لا أتركة مرة أخرى إلا إذا قضى الله أمرى.
و لعله كانت هناك علاقة خاصة بينى و بين النحاس كلما أمسكته بيدى لدرجة لا يتصورها عقل حتى أننى أكاد أجزم أننى أسمع أنين النحاس بين يدى و أنا أدق عليه وبدأت أظهر أعمالى بخطة قد رسمتها لنفسى أن أذخل بشغلى تدريجيا حتى لا يتفاجأ الناس وخاصة المحيطين بى و بدأت الاشتراك فى أكبر معارض فى مصر وكان آخر معرض أجندة فى مكتبة الإسكندرية وأبهرت السياح وكبار الفنانين بلوحة من النحاس الأبيض لمصر القديمة وجاء من القاهرة نقاد فنيين يتساءلون كيف صنعت لوحة مدمجة بهذا الحجم وكيف نعمت النحاس بهذه الدقة حينها و رفعت يدى إلى السماء أدعو بالرحمة للرجل الذى علمنى.
تلك كانت قصتى باختصار شديد و كنت أتمنى من الله عز وجل أن يمتد بى العمر لأحقق حلى فى أن أصنع بيدى شيئا يسجله التاريخ و يكون رمزا حضاريا لوطنى مصر و يتمثل ذلك الحلم فى عمل حوائط عملاقة من النحاس المأبب لمدخل المتحف المصرى الجديد أسجل عليها تاريخ مصر الفرعونى و الفاطى والعباسى وبانوراما أكتوبر حتى لا يذهب العمر و يندثر معه فنى كما اندثر مع من كان قبلى.






