تحقيقات
الإتجار بالبشر: الأسباب وآليات المواجهة
تحقيق: راجية محمد
تعد جريمة الإتجار بالبشر ممتدة عبر الزمن .. وهي من أخطر جرائم العصر ، فهي ثالث أكبر نشاط إجرامي بعد تجارة المخدرات والسلاح، وهي ليست ظاهرة وليدة عصرنا، بل هي جريمة تمثل جانب السلوك الإجرامي وغريزة الشراسة في الكائن الإنساني، لا في العدوان على البيئة من حوله وقنص الحيوانات لتحقيق احتياجاته الغذائية، بل قنص أفراد من جنسه. فهذا السلوك كان منتشراً في المجتمعات البدائية، مثل البدو الصحراويين العرب، وبدو الجبال المغول، حيث كانوا يشنون حملات موسمية للسطو على مساكن بعضهم البعض وخطف الأطفال والنساء وبيعهم في أسواق النخاسة، وفي هذه الأسواق كان يتم بيعهم بغرض تسخيرهم في الخدمة المنزلية والأعمال الشاقة.. وهي ذات الجريمة التي مارسها الأوروبيون في العصر الاستعماري حيث كان ينتشر صيادوا البشر في غابات أفريقيا الوسطى لاصطياد الأشخاص والأطفال وتخزينهم في عنابر إلى أن ترسو سفن التجار فتنقلهم إلى أسواق النخاسة للعمل في مزارع الرجل الأبيض في أمريكا .. هذا بخلاف المجتمعات الحضارية المتمدينة، كمصر القديمة التي لم تعرف هذا النوع من السلوكيات الإجرامية، ونشأت لديها أقدم منظومة تشريعية لحفظ حقوق الإنسان.
أسباب انتشار جريمة الإتجار بالبشر
فى هذا الإطار كان للقانون رأى يتناول أسباب انتشار جريمة الإتجار بالبشر فى لقاء مع المستشار القانوني محمد مبروك المحامي الذى أوضح أنه في عصرنا الحالي تتعدد صور الجريمة وتزداد رواجاً في فترات الاضطرابات السياسية والأمنية والحروب والثورات والانقلابات وظروف الكوراث الطبيعية من مجاعات أو فيضانات .. فقد أفاد تقرير للأمم المتحدة بأن عدد ضحايا الإتجار بالبشر، الذين تم تحديدهم، قد انخفض لأول مرة منذ 20 عاماً، بينما تسببت جائحة كورونا والأزمات الأخرى التي يشهدها العالم إلى تفاقم الظروف التي تعرض الناس للاستغلال. علاوة على التطور التكنولوجي الرهيب الذي مكن المجرم من اقتراف الجريمة ربما عن بعد دون أن تطاله قطرة واحدة من دم الضحية.
المستشار محمد مبروك
ومع تقدم العصر وتطور التكنولوجيا، تطورت وسائل الجريمة بذات القدر وتنوعت، خاصة ما يعرف اليوم بالديب ويب Deep Web” ” أو الدارك ويب “Dark Web” الإنترنت الأسود ، والأمر الآخر أن جريمة الإتجار بالبشر لا تتوقف على الصورة الساذجة المتعارفة في المجتمعات القديمة، أو حتى ذات الصورة الموجودة في الشارع اليوم ، حيث ينتشر بعض المتسولين في الشوارع لخطف الأطفال من ذويهم والاختفاء في ثوانٍ معدودة ليتم بيعهم لأباء غير قادرين على الإنجاب، أو لاستخدامهم في أغراض التسول أو الاستغلال الجنسي أو البيع بالتجزئة، حيث يتم تقطيعهم وبيع أعضائهم .. وهناك بعض الأسر الفقيرة التي تلجأ لبيع أحد أطفالها نتيجة الفقر والحاجة إلى المال. وجريمة الاتجار بالأعضاء البشرية قد تصل أحيانا للقتل العمد للحصول علي الأعضاء البشرية لتزويد المرضي القادرين ماديا بالأعضاء اللازمة لشفائهم، فهذه الجريمة جعلت من أعضاء الإنسان البشرية سلعة تباع وتشتري لمن يدفع أكثر.
جريمة الإتجار بالبشر في القانون المصري
وفى هذا الإطار صدقت مصر على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وبروتوكـول الأمم المتحدة لمنـع، وقمـع، ومعاقبة الإتجـار بالأشـخاص، وخاصة النسـاء والأطفـال بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 294 لسنة 2003، وذلك وفقاً للمادة 151 من دستور عام 1971 – الذي كان معمولاً به وقت الانضمام للاتفاقية، والذي كان ينص على أن “تكون للمعاهدات الدولية قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها وفقاً للأوضــاع المقررة”.
كما أكد الدستور المصري 2014 على التزام الدولة بكافة المواثيق والمعاهدات الدولية التى صدقت عليها في مجال مكافحة جريمة الإتجار بالبشر باعتبارها في مصاف التشريعات الملزمة وفقاً للمادة 93 من الدستور المصري. وشملت الوثيقة الدستورية الصادرة عام 2014م القواعد العامة التي بمقتضاها تتصدى لجرائم الإتجار بالبشر، وحرصت على إسباغ حماية دستورية وجنائية بشأن حظر وتجريم الاتجار بالبشر، كما قررت المادة (80) من الدستور حماية خاصة للطفل من الاستغلال الجنسي والتجاري – كصورتين للإتجار بالبشر – بقولها: “وتلتزم الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري”. ونص القانون المصرى لمكافحة جرائم الإتجار بالبشر على أن: يعاقب من ارتكب جريمة الإتجار بالبشر بالسجن المشدد وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تتجاوز مائتى ألف جنيه أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر.
وبشأن مكافحة الجريمة بوجه عام، فإن المشرع المصري لم يتوقف عند حدود وضع عقوبة غايتها ردع المجرم والانتقام منه بالسجن المؤبد ، بل وضع خطوات إجرائية توفر وقاية مستقبلية للمجتمع من ويلات هذه الجريمة ، وتسهم في رفع الوعي العام، وتسارع في انتشال الضحية وإسعافه بالخدمات اللازمة له.
وأضاف المستشار محمد مبروك بأن الإنترنت هو أداة الجريمة، وهو سلاح ذو حدين مكن البشرية من قطع خطوات كبيرة في طرق الاتصال والتواصل، وبذلك مكن المجرمين من التخطيط لجرائمهم في بقاع مختلفة من العالم وبسرية تامة! ولهذا أصبح القانون غير قادر على استئصال الجريمة ومنع وقوعها بالنسبة 100% فهناك نسبة من الجرائم تظل غامضة ويصعب على المحقق الوصول إلى طرف خيطٍ فيها. وبالتالي لا بد من اتباع وسائل أخرى تكون مثمرة في مكافحة هذه الجريمة، أخصها مكافحة الفقر كسبيل لمكافحة الجريمة، وتصفية البؤر ذات الكثافة السكانية ونقلهم إلى مناطق العمل والإنتاج، لأن البطالة والفراغ يصنع ميولاً إجرامية وشذوذ فكري وسلوكي ، وعلاجه الاندماج في العمل والبناء والإنتاج. فمجرد التخلص من الفقر والكثافة السكانية والبطالة، فإن ذلك كفيل بحلحلة أزمة الإتجار بالبشر وكذلك الإتجار بالأعضاء البشرية في آنٍ واحد.
وينبغي على الدولة مكافحة ظاهرة التشرد، فهي المورد الأساسي لجريمة الإتجار بالبشر؛ وذلك بتنظيم منشآت عامة تكون مخصصة كمأوى للمشردين تضمن لهم الصحة الجيدة والعمل اللائق والنمو الاقتصادي وإغلاق فجوة عدم المساواة في المجتمع، وخلق وعي جمعي بمفهوم التضامن الاجتماعي بين أفراد المجتمع ومجموعاته، ولا بد أن تكون هذه المؤسسات تحت رقابة شاملة ومباشرة من الدولة، لأن حالة التشرد وانسلاخ الفرد عن أسرته يفتح الطريق أمام الإتجار بالبشر، فهؤلاء هم الضحية والمورد الخصب لجريمة الإتجار بالبشر، لأنهم غير قادرين على حماية أنفسهم أو توفير احتياجاتهم الأساسية.
ومن الضروري توحيد المنظومة الشرطية لمباحث الإنترنت حول العالم بحيث تكون بذاتها سلطة عابرة للحدود ومترابطة بمراكز إقليمية في الدول، لأن غالبية جرائم الإتجار الآن تتم بطريقة عابرة للحدود، وطالما كان الإنترنت وسيلة اتصال عالمية موحدة فلا بد أن تكون أدوات الرقابة عليها هيئة عالمية موحدة وذلك لسهولة تتبع الجريمة والوصول إليها في الوقت المناسب.
وأما عن التأهيل النفسي والتربوي أو الدور التوعوي الذي تقوم به الدولة، فينبغي بداية إسقاط المشاهد السادية الدموية المؤذية من المواد الفلمية المصورة والمسلسلات، لأنها تخلق في روح الطفل وعقله جرأة لممارسة السلوك وإعادة تمثيل المشهد الفني. وكذلك حذف أخبار الحروب السابقة والجرائم التاريخية (الفتوحات) من مناهج أطفال المدارس لأنها ترسم صوراً ذهنية سادية في عقل الطفل وتجعل الجريمة سهلة واعتيادية في عقله بل شيء مقدس ومحبب إلى الله، مثال داعش أعادت حرفياً تجسيد ما حدث في تاريخ الفتوحات العربية، إعادة صورة حية من مشاهد القتل بالسيوف والنخناجر، والسبي واغتصاب الفتيات وخطف الأطفال ووضعهم في سلاسل معدنية بذات الصورة التي روتها كتب التراث عن الحروب في العصور الوسطى.
وأيضا التركيز الإعلامي للتعريف بجريمة الإتجار بالبشر وصورها لتوجيه وعي الأفراد إلى الإبلاغ عن الحالات التي في متناولهم أو حتى توعية بعض الأفراد أنهم واقعون تحت جريمة إتجار البشر، بحيث تعتبر هذه الخطوة جزء من المحاور الثلاثة الأساسية (الحماية، المنع، والملاحقة) في مكافحة جريمة الإتجار بالبشر.
منشور جميل ورائع وشكر خاص للمستشار محمد مبروك والدكتور احمد حسن على عرض الاراء القانونية والفقهية كلاً في تخصصه وشكر خاص للاستاذة راجية محمد على تناولها مثل هذه الموضوعات الجريئة على منصتها الالكترونية ونتمنى لها عرض المزيد وتناول العديد من الموضوعات التي تخدم المجتمه من الناحية الاجتماعية والانسانية.
ولي اضافة بسيطة على هذا الموضوع الرائع والتي اشرف بعرضها وهي دور الدولة التي نعلم ما تبذله من محاور تنموية في شتى الكجالات ولا ننكر تصديها لتلك الجرائم، ولكن اقتراحي ان تستغل الدولة الموارد البشرية لها عن طريق تعاقد السفراء بالدول الخارجية وتوفير فرص عمل للشباب بالخارج على ان تكون الدولة هي المشرفة وصاحبة السيادة على هؤلاء العمال حتى لا تتكرر مأساة حياة الماعز مع ابناءها
ويكون للدولة نصيب من مرتبات هؤلاء العمال مقابل توفير فرص عمل لهم وتأمينهم وتولية امرهم والوقوف معهم بكل أجهزتها في حالة وقوع أيّاً من هؤلاء العمال في مشكلة سواء مع البلد الذي يعمل بها او مع صاحب العمل
واخيرا أهدي تحياتي لجميع من ساهم في هذا المقال الرائع