د. محمد سليمان يكتب: اللواء أركان حرب محمد الفاتح كريم بطل في ذاكرة نصر أكتوبر
جبل المر.. حين صار “جبل الفاتح”
في حياتي المهنية كان من حُسن الحظ أن ألتقي مع أحد أبطال حرب أكتوبر ، القائد العسكري الذي ظل اسمه محفورًا في ذاكرة النصر، اللواء أركان حرب محمد الفاتح كريم، بطل معركة جبل المر في حرب أكتوبر 1973، جلست معه في منزله لساعات أستمع إلى ذكرياته، يرويها بصدق وهدوء وكأنه يستعيد اللحظة بكل تفاصيلها: صوت المدافع، صرخات الجنود، ودموع الفرح عند رفع العلم فوق قمة الجبل. كانت تلك الجلسات بالنسبة لي هدية العمر، أن أسمع التاريخ من صانعيه لا من الكتب.
ولد الفاتح كريم في قرية الشيخ تمي بمحافظة المنيا عام 1932، لأسرة ميسورة الحال تتوارث العلم والزعامة. منذ طفولته، كان متفوقاً بين أقرانه، حصد المركز الأول في الابتدائية ثم التحق بالثانوية ومنها إلى الكلية الحربية عام 1950. تخرج ضابطاً بسلاح المشاة قبل ثورة يوليو بأسابيع قليلة، ومنذ ذلك الحين ارتبط اسمه بكل محطات القتال التي خاضتها مصر: من العدوان الثلاثي عام 1956، إلى حرب اليمن في الستينيات، مروراً بسنوات النكسة، والاستنزاف،وصولاً إلى معركة العبور المجيد.
لكن ما يميز هذا البطل ليس فقط مسيرته العسكرية، بل إنسانيته التي تلمسها في حديثه، كان يروي لي كيف كان يجلس مع جنوده، يعرف أسماءهم، همومهم، ظروفهم العائلية، ويقول: “القائد الذي لا يعيش مع جنوده ليس قائداً.. نحن نحارب كجسد واحد”.
في حرب أكتوبر كان العقيد أركان حرب محمد الفاتح كريم يقود اللواء الثاني مشاة ميكانيكي التابع للفرقة 19 مشاة، وكُلفت قواته بمهمة شديدة الخطورة: اقتحام جبل المر، ذاك الموقع الاستراتيجي الذي أقام العدو فوقه مرابض مدفعية بعيدة المدى ونقاط مراقبة للتحكم في مسرح العمليات جنوب القناة.
في يوم التاسع من أكتوبر 1973، قاد الفاتح رجاله بنفسه في هجوم دموي شرس، لم يترك فيه شبرًا إلا شارك فيه، حتى أنه قاد سرية مشاة بيديه، رغم أن رتبته كانت تعفيه من ذلك.،لكنه كان يرى أن القائد يجب أن يكون في المقدمة.
سقط شهداء، تصدى الجنود للطائرات الإسرائيلية وأسقطوا إحداها، وانطلقت الدبابات تتهاوى واحدة تلو الأخرى تحت صواريخ القناصة. ومع الظهيرة، ارتفع العلم المصري فوق قمة الجبل، وصار “جبل المر” اسماً من الماضي، ليحمل منذ ذلك اليوم اسم “جبل الفاتح”.
كان ذلك الانتصار نقطة تحول في معارك الجيش الثالث الميداني، إذ حرم العدو من أهم موقع للمراقبة والسيطرة على القناة، وفتح الطريق لتقدم القوات المصرية نحو العمق. ولعظمة هذا الإنجاز، منحه الرئيس السادات وسام نجمة الشرف العسكرية، أرفع وسام عسكري في مصر، وهو ذات الوسام الذي ناله قادة كبار مثل اللواء عبد المنعم واصل، والعميد أحمد بدوي، والعميد يوسف عفيفي.
بعد الحرب، واصل الفاتح كريم خدمة وطنه قائداً للفرقة الثالثة مشاة ميكانيكي، ثم رئيساً لأركان المنطقة الجنوبية العسكرية، وصولاً إلى قيادتها حتى تقاعده عام 1985. لكن تاريخه لم يتوقف عند رتب ونياشين، بل ظل رمزاً للبطولة الحقيقية، التي لم تسعَ إلى الأضواء، بل إلى أن تظل مصر واقفة شامخة.
حين تحدث معي عن تلك الأيام، كان صوته يرتجف أحياناً وهو يتذكر زملاءه الذين استشهدوا، ويبتسم حين يذكر كيف بكى الجنود فرحاً وهم يرفعون العلم فوق قمة الجبل. قال لي: “النصر لم يكن سلاحاً فقط، كان إرادة، كنا نعرف أننا إما أن نحرر أرضنا أو نموت عليها”.
رحل اللواء محمد الفاتح كريم عن عالمنا في 29 مارس 2013 عن عمر 81 عاماً، وشيّع في جنازة عسكرية مهيبة. لكنه لم يرحل من ذاكرة الوطن. فاسمه محفور على صخرة جبل شرق القناة، وشهادته ما زالت حية في قلوب من عرفوه،ليكتب التاريخ : هنا وقف بطل.. وهنا صار “جبل المر” هو “جبل الفاتح”.