مقالات

د. آية الهنداوي تكتب: التوراة والسياسة .. كيف تحوّل النص المقدس إلى مشروع إسرائيلي؟

akhbarelsaa.com hPhuPLiR

 

 

 

 

 

 

 

منذ نشأة الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر لم يكن مشروع إقامة دولة إسرائيل مجرد خطة سياسية أو هجرة جماعية، بل ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالنصوص الدينية اليهودية وخصوصًا التوراة.

فالتوراة لم تعد مجرد كتاب مقدس يُقرأ في المعابد، بل تحولت إلى وثيقة سياسية يتم توظيفها في الخطاب العام لتبرير المطالبات بالأرض وإضفاء شرعية دينية على السياسات الإسرائيلية. وبذلك أصبحت النصوص التوراتية حجر الزاوية في بناء المشروع الصهيوني ومصدرًا من مصادر قوته الرمزية أمام العالم.

كما أن الفكرة الصهيونية ترتكز على نصوص توراتية عديدة تؤكد وعد الله لإبراهيم ونسله بأرض كنعان مثل ما ورد في سفر التكوين: “لنسلك أعطي هذه الأرض”، أو ما جاء في” سفر يشوع “من تحديد لحدود الأرض من النيل إلى الفرات. هذه النصوص تحولت إلى ما يشبه البيان السياسي الذي استند إليه قادة الصهيونية لتأكيد أن مشروعهم ليس مجرد استعمار إستيطاني، بل هو تحقيق لوعد إلهي تاريخي، ومن هنا جاء الربط بين الأرض والهوية والقداسة في الفكر الصهيوني.

ولم يكن الدين في الصهيونية مجرد خلفية ثقافية، بل صار إطارًا سياسيًا واضح المعالم. فتيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية رغم علمانيته أدرك أن استدعاء النصوص التوراتية يمنح مشروعه قوة عاطفية وسياسية مضاعفة. ولاحقًا استغل قادة إسرائيل الأوائل مثل دافيد بن جوريون ومناحيم بيجن رموز التوراة لإضفاء قداسة على الصراع السياسي والعسكري معتبرين أنفسهم امتدادًا لأنبياء بني إسرائيل وملوكهم. وهكذا تحول النص التوراتي إلى أداة للشرعنة تُستخدم في الخطاب السياسي وفي المناهج الدراسية، وحتى في تبرير الحروب والتوسع الإستيطاني.

ولم يقتصر التوظيف على الداخل الإسرائيلي، بل امتد إلى العالم الخارجي. ففي المؤتمرات الدولية كثيرًا ما كان السياسيون الإسرائيليون يلوّحون بالتوراة باعتبارها صك ملكية تاريخي للأرض وفي الإعلام الغربي استُخدمت قصص مثل الخروج وإعادة بناء أورشليم لصناعة صورة درامية لليهود كأمة مظلومة عادت إلى موطنها الأصلي. حتى في السينما الهوليوودية انعكست هذه النصوص في أفلام ضخمة مثل “الوصايا العشر” التي غذّت المخيال الغربي حول شرعية الوجود الإسرائيلي.

هذا التداخل بين النصوص الدينية والسياسة جعل الصراع على فلسطين أكثر تعقيدًا. فبالنسبة للإسرائيليين الأرض ليست مجرد مساحة جغرافية بل وعد مقدس، بينما يراها الفلسطينيون والعرب محاولة لشرعنة الإستعمار عبر الدين.

وقد انعكس ذلك في المفاوضات السياسية حيث كثيرًا ما يتمسك القادة الإسرائيليون بالمقولات التوراتية في مقابل المطالب الفلسطينية بالحقوق التاريخية والشرعية الدولية.

ومع ذلك يشير كثير من الباحثين إلى أن ما فعلته الصهيونية هو إعادة تفسير للنصوص بما يخدم أهدافًا سياسية معاصرة.
فالتوراة نص ديني–تاريخي كتب في سياقات مختلفة تمامًا، لكن جرى تحويله إلى دليل سياسي حديث. ويرى هؤلاء أن هذا التوظيف يختزل الدين في خدمة السياسة، بل ويجعل النزاع الدولي أكثر استعصاءً على الحل لأن أي صراع يستند إلى نصوص مقدسة يصبح أقرب إلى حرب عقائدية لا تقبل التنازل.

ورغم النقد يبقى تأثير التوراة في السياسة الإسرائيلية حاضرًا بقوة حتى اليوم. ففي الإستيطان بالضفة الغربية تُستدعى نصوص سفر يشوع وصموئيل لتبرير السيطرة على الأراضي، وفي الخطاب الرسمي يكرر السياسيون الإسرائيليون أن دولتهم هي تجسيد لوعد الله، بل إن الجيش الإسرائيلي نفسه يدرّس بعض المقاطع التوراتية لرفع الروح المعنوية للجنود، معتبرين أنفسهم امتدادًا “لجيش داود”.

ومن هذا المنطلق أري أن العلاقة بين التوراة والسياسة في المشروع الصهيوني تكشف عن مزيج معقد من الدين والتاريخ والأيديولوجيا. فالنصوص التي كتبت قبل آلاف السنين تحولت إلى أداة تُستخدم في صراعات القرن الحادي والعشرين. وبينما يرى اليهود أن التوراة تمنحهم شرعية أبدية، يرى العرب أن هذا التوظيف ليس إلا غطاءً دينيًا لمشروع استعماري.

وفي النهاية يبقى السؤال مفتوحًا، هل يمكن بناء سلام عادل في المنطقة طالما ظل النص الديني يُستخدم كسلاح سياسي؟

ولنا لقاء آخر لنكشف ما وراء الستار من الحقائق المخفية عن اليهود وصهيونيتهم.


مدرس الدراسات اليهودية – كلية الآداب – جامعة المنصورة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى