إغاثة الملهوف من أجلِّ القربات إلى الله و أهل المعروف في الدُّنيا هم أهل المعروف في الآخرة و أوَّل أهل الجنة دخولًا
أحمد هلول
من أجلِّ وأجملِ صفات المجتمع المسلم أن يتمتع أفراده بالمروءة والشهامة وإغاثة الملهوف، تلك السجايا التي تشبع النفوس بالخيرات وتُحوِّلُ الحياة إلى حياة هنيئة طيبةٍ، وتزيد من معاني الوئام بين القلوب، وتظهر أصدق صُورِ التدين الحقيقيِ النَّابعِ من أوامر القرآن الكريم والسنة المطهرة.
يقول الشيخ أحمد عبدالجواد محمد الواعظ بمجمع البحوث الإسلامية و عضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف
إن القدوة الأولى في ميدان المروءة وصنائع المعروف وإغاثة الملهوف هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، شهدت بذلك أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها بعد أن أخبرها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بما حدث له في الغار وقال لها: (… لقد خشيتُ على نفسي. فقالت خديجةُ: كلا واللهِ ما يخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصلُ الرحِمَ، وتحملُ الكلَّ، وتكسبُ المعدومَ، وتُقري الضيفَ، وتعينُ على نوائب الحقِّ) ، وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ وأجودَ الناسِ وأشجعَ الناسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينةِ ذات ليلةٍ فانطلق الناسُ قبلَ الصوتِ فاستقبلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد سبق الناسَ إلى الصوتِ وهو يقولُ: لم تُراعوا لم تُراعوا “لا تخافوا” وهو على فرسٍ لأبي طلحةَ عُرِيٍّ ما عليه سَرْجٌ، في عُنُقِه سيفٌ فقال: لقد وجدتُه بحرًا أو إنه لبحرٌ “يقصد الفرسَ في سرعته”) ، وهكذا نرى أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لم يتأخر عن نجدة الناس في وقت الفزع والخوف بل كان أسرعهم على فرس عريٍّ إلى موقع الحدث وعاد ليؤمِّنَهُم من فزعهم وخوفهم، وكذلك كان على الدوام؛ أقرب الناس إلى مظنات الأخطار ليحميَهم ويسدَّ عنهم الثغرات، قال عليٌّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (كنا إذا حَمِيَ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ اتَّقَيْنَا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منهُ)، وهذا درسٌ من أعظم الدروس لكل قائدٍ أياً كان موقعه وفي أيٍّ مجال أن يبدأ بنفسه ليكون قدوةً في باب الشهامة والإقدام.
وكان صلى الله عليه وسلم يبين لأصحابه أن إغاثة ذي الحاجة الملهوف من أكرم الأعمال وأجلِّ القربات وصدقة من الصدقات، فعن أبي ذرٍ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس مِن نفسِ ابنِ آدَمَ إلَّا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلَعَت فيه الشَّمسُ، قيل: يا رسولَ اللهِ ومِن أينَ لنا صدقةٌ نتصدَّقُ بها؟ فقال: إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ: التَّسبيحُ والتَّحميدُ والتَّكبيرُ والتَّهليلُ والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عنِ المنكَرِ وتُميطُ الأذى عن الطَّريقِ وتُسمِعُ الأصَمَّ وتَهدي الأعمى وتدُلُّ المستدِلَّ على حاجتِه وتسعى بشدَّةِ ساقَيْكَ مع اللَّهفانِ المستغيثِ وتحمِلُ بشدَّةِ ذراعَيْكَ مع الضَّعيفِ فهذا كلُّه صدقةٌ منك على نفسِك) ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عونِ العَبدِ، ما كانَ العَبدُ في عونِ أخيهِ) ، وجعل النبي الكريم صلى الله عليه إغاثة الملهوف من حق الطريق، فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: (مرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مجلسِ الأنصارِ فقال: إنْ أبَيْتُم إلَّا أنْ تجلِسوا فاهدوا السَّبيلَ ورُدُّوا السَّلامَ وأغيثوا الملهوفَ).
وتجلت المروءةُ وصُنْعُ المعروفِ من سيدنا موسى الكليم عليه السلام حينما سقى لابنتي شعيبٍ وبلا أجرة مع أنه كان في شدة الحاجة مفتقرٌ إلى عطاءِ الله وفضله، قال الله تعالى عنه: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾. وهو الذي طَعِمَ ورق الشجر وكان في مخمصةٍ وفاقةٍ لكنه مع ذلك لم يشترطْ ولم يؤجل المروءةَ والشهامةَ ولم يُقَايِضْ عليهما مالاً أو مقابل [وكان لم يذق طعاماً منذ سبعة أيام ولُصِقَ بطنُهُ بظهره، قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه)، ووافاه فضل الله بعد ذلك حينما رجعت إليه إحدى ابنتي شعيب قائلةً: ﴿ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ ، فقد أغاثهما موسى عليه السلام بلا مقابل ولم يطلب أي شيء بل إنه تولى عنهما بعد أن أدى واجبه، وهذا دأْبُهُ ودَأْبُ الأنبياء والصالحين، قال الله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ﴾.
وقد كان سلفنا الصالح – رحمهم الله – يسعون إلى صناعة المعروف، ويحرصون عليه، ويلتمسونه، مبتغين الأجر والاقتداء بسنة نبيِّنا العدنان، فهذا عمر لما وُلِّي الخلافة، خرج يتحسس أخبار المسلمين، فوجد أرملة وأيتامًا عندها يبكون، يَتَضَاغُون من الجوع، فلم يلبث أن غدا إلى بيت مالِ المسلمين، فحمل وِقْرَ طعام على ظهره، وانطلق فأنضج لهم طعامهم، فما زال بهم حتَّى أكلوا وضحكوا.
وهذا عبدالله بن المبارك كان ينفق من ماله على الفُقهاء، وكان من أراد الحجَّ من أهل مرو – المدينة التي يعيش فيها – إنَّما يَحج من نفقة ابن المبارك، كما كان يؤدي عن المَدِين دينه، ويشترط على الدائن ألا يخبر مَدِينَه باسمه.
ومن ثمرات إغاثة الملهوف وصنع المعروف أنَّه يدفع البلاء وسوءَ القضاء، كما جاء في قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((صنائع المعروف تقي مصارعَ السوء))، كما أنَّ أصحاب المعروف من أوَّل الداخلين إلي جنات ربِّ العالمين؛ فقد روي عن أبي أمامة – رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إنَّ أهل المعروف في الدُّنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أوَّل أهل الجنة دخولًا أهل المعروف)
من ناحيته يقول الشيخ السيد عبدالله من علماء الأزهر الشريف : من الأخلاق التي حث عليها الشرع الحنيف إغاثة الملهوف، فالإنسان مكرَّم بتكريم الله إياه {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} فالغنى والفقر والبياض والسواد كلها أوصاف وأعراض لا دخل لها في تكريم الإنسان، فالإنسان بما هو إنسان له قيمته وأهميته عند الله تعالى «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، ومن صور تكريم الله للإنسان أن أمر سبحانه بإغاثته، والوقوف بجانبه، والعمل على إعانته أيا كان هذا الإنسان سواء كان مسلما أو غير مسلم.
والملهوف هو المظلوم أو المكروب، أو المحتاج، فالعمل على مساعدة المظلوم، أو فك كربة المكروب، أو إعانة المحتاج من أعظم القربات عند الله تعالى، وإغاثة الملهوف من الأخلاق الحميدة التي يحبها الله تعالى، ويعطي عليها الثواب الجزيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» فهذه الكلمات الجليلة الرقراقة الصاداة من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فيها حض وترغيب وحث للنفس على مساعدة الفقراء والمحتاجين، وقضاء حوائج الناس، وإغاثة الملهوفين.
فالمسلم الذي يدفع المال عن الغارمين والغارمات، ويمنع عنهم السجن، ويكون سببا لمنع تشرد الأولاد، ويرفع عنهم الحرج له الثواب الجزيل من رب العزة سبحانه وتعالى، فمَن يساعد والدا فقيرا على تزويج أولاده، ومن يعلم على رفع العسر عن عباد الله يرفع الله عنه العسر في الدنيا؛ بأن يبارك له في أولاده وماله، ويرفع عنه المصائب، وإذا نزلت المصائب عليه تكون بردا وسلاما على قلبه، فلا أحد أكرم من الله تعالى، ولا أجود منه سبحانه وتعالى، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو المالك لكل شيء، ولا أدل على ذلك من أن العبد الذي يغيث الملهوف ويقضي حوائج الناس ما دام في هذا الأمر فالله تعالى معين له وميسر له أحواله، فإذا ترك العبد رفع الكروب عن المكروبين تركه الله تعالى، قال تعالى {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم}.
ومن الآيات التي تحث الناس على التكافل الاجتماعي بينهم، وعلى الوقوف بجانب المحتاج قول الله تعالى {ولا تنسوا الفضل بينكم} فالمسلم هدفه هو نشر التكافل الاجتماعي في المجتمع، ورفع الظلم عن المظلومين، ودفع الدَين عن المدينين، ورسم البسمة والأمل على وجوه اليتامى والأرامل، وعلى إعانة الفقير، وعلى تقديم الطعام لمن يحتاج إليه، فإغاثة الملهوف لا تقتصر على نصرة المظلوم فقط، بل إغاثة الملهوف هي: الوقوف بجانب المحتاج حتى يقضي حاجته، وأيضا ألا يتكاسل الموظف على أداء مهامه والعمل على قضاء مصالح المواطنين فذلك إغاثة للملهوف، وأيضا: تقديم الطعام للفقير واليتامى من أفضل صور إغاثة الملهوف فهم بأمس الحاجة إلى مَن يدخل عليهم السرور، وأيضا من صور إغاثة الملهوف دفع رسوم المدارس لمن عجز عن دفعها لأولاده لئلا يشعر بالتقصير والعجز أمام أولاده، والسير في قضاء مصالح الناس من أعظم صور إغاثة الملهوفين.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة النبوية الشريفة وبعدها في قضاء حوائج الناس لذا قالت له السيدة خديجة رضي الله عنها لما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع بيته خائفا وقص عليها الخبر فقالت له: «كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق»، فمساعدة الناس من القربات التي لا يعلم ثوابها إلا الله رب العالمين.
ومن صور إغاثة الملهوف عدم رفع التجار للأسعار لئلا يشعر الفقير بالاحتياج فتزيد حاجته، وتكثر الكرب على عباد الله، فإذا كان من يغيث الملهوف له الثواب الجزيل فمن يصنع الأزمة، ويجعل عباد الله ملهوفين له العذاب الأليم، فالإسلام يدعو إلى مجتمع يسوده الحب والوئام والعمل على تفريج كرب الناس، فالإسلام يدعو إلى مجتمع تسوده التعاليم الإلهية، والتخلق بأخلاقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم «على كل مسلم صدقة» قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق» قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: «فيعين ذا الحاجة الملهوف» قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: «فيأمر بالخير» أو قال: «بالمعروف» قال: فإن لم يفعل؟ قال: «فيمسك عن الشر فإنه له صدقة».
ومن صور إغاثة الملهوف مساعدة الضعفاء والعجزة، وذلك ما صنعه نبي الله موسى عليه السلام عندما ورد ماء مدين وجد فتاتين لا تستطيعان أن تسقيا الأغنام من ماء البئر لكون ماء البئر في القاع، وأبوهما رجل كبير لا يستطيع العمل، ومع أن نبي الله موسى لم يأكل منذ سبعة أيام وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغا عظيما إلا أنه لم يطلب منهما لا طعاما ولا أجرا بل سقى لهما الأغنام ثم انصرف، فكانت المكافأة من الله تعالى بأن أكرمه بالزواج من واحدة منهما، وبالعمل وبالمكان الذي يستقر فيه، وبالطعام، ويصور لنا القرآن الكريم ذلك الموقف بأسلوب بديع يجذب الأنظار، ويزرع في قلب السامع والقارئ ثواب إغاثة الملهوف، قال تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم أمرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير}.
وكان من تعاليم الله تعالى للأنبياء الأمر بفعل الخيرات، ومساعدة الناس والعمل على قضاء حوائجهم، قال تعالى {وأوحينا إليهم فعل الخيرات}، وهذا الخُلُق السامي هو ما حض عليه النبي صلى الله عليه بقوله «إن لله عبادا خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون يوم القيامة» فجزاء السائر في قضاء مصالح الناس أن يأمن يوم القيامة من الحر والعذاب وغضب الله تعالى، وربما يأمن أيضا من مناقشة الحساب، وأن يكون في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله فـ«خير الناس أنفعهم للناس» فالأفضلية بين الناس في الإسلام ليست بالمال ولا الجاه بل في مدى التزام المرء بتعاليم الإسلام، والتخلق بأخلاقه، وبالعمل على قضاء حوائج الناس، فذلك من أعظم القربات عند الله تعالى.