أيقونة الوطن في تجربة محمد الشحات الشعرية وأبنيتها الدرامية
بقلم: د. بهاء حسب الله
أستاذ الأدب
العربي، كلية الآداب، جامعة حلوان
تظل حركة النص الأدبي
المعاصر متصلة بتطور الفكر النقدي الحديث، وتطور علوم النصية المعاصرة وما يوازيها
من علوم اللغة والأساليب والتراكيب والمناهج، والمعارف الإنسانية مجتمعة، ومن ثم
لمسنا النص الأدبي يتقلب عبر مناهج ومذاهب وقراءات كثيرة، فيتمحور مرة بين
الانطباعية والعقلانية والأخلاقية والعملية، ومرة بين الاجتماعية والتاريخية
والنفسية وغيرها، حتى استوى عوده، وصار علمًا قائمًا بذاته، خاصة مع إسهامات فان
ديك وبارت وياكوبسون وتودروف وريفاتير، باعتبار أن حركة الأدب المعاصر وحركة
الدراسات البحثية الأدبية الراهنة ترتبط ارتباطا مباشرًا بحركة الحياة الإنسانية
عامة، وبما يمكننا أن نسميه بالتحولات المعاصرة للأنساق الثقافية والاجتماعية
والفكرية والحضارية، في تنوعها وتجددها وديمومتها، وفي مختلف وسائل التعبير عنها،
وبمنظومة الصلات البشرية كافة، خاصة مع اتساع شكول العلاقات الاجتماعية عبر وسائل
الاتصال الحديثة، وتغير معايير القيم ومفاهيمها وتبدلها، وتحول الأنماط المعرفية
والفكرية ذاتها من حال إلى حال، مما ألقى بظلاله على فكر (المنهجية) لبنية النص الأدبي ولغته
وخياله وإيقاعاته المختلفة، وفكر (المنهجية) في المعالجة النقدية
للناقد الأدبي ذاته، في تواشجه مع أبعاد النص الأدبي المعاصر ورموزه، وتعامله معه
من زاوية التحليل والقراءة البينية، تماشيا واستجابة لتغير تيار الوعي المعاصر
وانتفاضته في معظم الميادين الأدبية والفكرية والعلمية، حتى بات النص يكشف بطرق
مباشرة أو غير مباشرة عن منطق الخروج عن الثوابت، أو ما يسميه النقاد المعاصرون بـ
(انكسار النوعية)، خاصة مع هذا التقارب
الذي نراه بين الشعرية والروائية حاليا – على سبيل المثال – مع تبادل التقنيات
الفنية بينهما .
أقول هذا وأنا أمام تجربة
شعرية للشاعر الأستاذ محمد الشحات اكتملت لها وفيها ملامح العطاء الشعري على فرادة
جديدة تستمد ووجودها وحركتها من وحي شعري شديد الخصوصية، دقيق البناء، مرتبط
ارتباطًا كاملا بطبيعة الأداء اللغوي وطبيعة الصياغة ذاتها، وفكر البناء النصي
كمحور دال على طبيعة الشخصية الشاعرة، ومنهجها الحي، فتجربة محمد الشحات في بنياته
النصية تجربة مضيئة.. لماذا لأننا أمام حركة شعرية تسير عبر أدوات
إجرائية وظفها الإبداع في إطار الصياغة أولا، وفي إطار تأثره بالمحيط الأدبي العام
؛ ومنه محيط القص والحكي على أنماط جديدة في المذاق الشعري تقارب أنماط النص
الروائي، فكثيرًا ما تستشعر في نصوصه أن للنص راويًا يحرك الدفة الشعرية والدفقة
المتراكبة على درجة من درجات الوعي، وهي درجة مرتبطة كثيرًا، بما يمكننا أن نسميه
بفكر النصية الذي ألمحنا إليه، وهو فكر تأثيري تتسع ملامحه مع تنامي منظومة الحكي
في عمق النص الشعري، باعتبار أن النص الشعري الذي يبدو متماسكًا إلى أبعد حدٍّ عند
محمد الشحات هو نص ذو جسد لغوي، وله آلية خاصة في سياق إنتاج الدلالة، ومرهون
بأشكال البناء اللغوي، وبأنماط الهيكيلية الشعرية في الوقت نفسه، وبالأدوار التي
يختارها الإبداع لمنطقه الشعري، ومنها هذا الدور الذي تحركه كثيرًا فكرة استحضار
شخصية (الراوي) لبناء منظومة الحكي
الدرامي عبر طاقات القص والسرد والتفصيل والمفارقة والتداعي النصي، انظر على سبيل
المثال لنصه (بعض بقاياه) لتلمس بنفسك طبيعة دراما
الحكي عنده، وطبيعة الموضوع الشعري، وكيف استطالت لتأخذ من هيكلية الرواية
مفاتيحها الذهبية، ومنها محاولة تحكمه في إجرائه الشعري من مدخل الراوي أو الرواي
العليم، وهي محاولة منه للتحكم في النص بكل أبنيته الكلية والجزئية، وخلق ما
يمكننا أن نسميه بالسلطة الشعرية التي تسمح لنقسه بممارسة الحكي والسرد والوصف
والتدقيق وفتح العمل على نقاط عدة، أو توجيه الحكي إلى حدث بعينه، وإغفال حدث آخر
حسب رؤيته الموضوعية، أو إكمال الحدث إلى نهايته المحتومة، انظر إلى نصه (بعض بقاياه) لترى كيف حضر راويه
الشعري على مستوى بناء الأحداث، وعلى مستوى رسم دراما الحكي ذاته أو موضوعه، وعلى
مستوى خلق شخوص العمل، لتدرك في النهاية أن محمد الشحات قد اختار الطريق الصعب
لمنهجه الشعري، لأنه يصر على ظهور شخصيته الشعرية عبر (الآخر) وإن كان مُحايدًا.. عبر راويه الحاضر بقوة في
قوام نصه الشعري، وفي قلب الأحداث … يقول وقد أخذنا إلى همه الذي قد يبدو همًّا خاصًّا،
ولكنه في الواقع وللأسف هم عام :
ارتاب لخطوتِهِ
فاستوقفهُ
وتأمْلَ هيأتَهُ وتفحصَهُ
ظلَّ يُدقق في ملمحِهِ
حاولَ أن يخفي رهبتَهُ
كادت أطرافُ أصابعِهِ
أن تسقطَ من كفيهِ
من أين أتيتَ؟؟!
وماذا تُخفي في عينيكَ
أراك تُحاولُ أن تُظهِرَ
بعضَ الغضبِ
هديء من روعِكَ
أفرغ ما في جيبكَ
نظرَ إلى بعض وجوهٍ
استوقفها الشرطيُّ
وأقلقهُ ما خطَّ
ملامِحَها
كان يُحاولُ ألا يُخرجَ
ما حاولَ أن يُخفيهُ
بعض من أبياتِ الشعرِ عن
الوطنِ
وبعيدًا عن الوقوف عند
طبيعة البناء الموضوعي أو الفني لمدخل النص أو تصنيفه في دائرة الشعرية النثرية
الحكاءة، وهي خاصية جوهرية تفرض نفسها كثيرا في شعر محمد الشحات، فإن ملامح
استراتيجية بنائه قد كشفت نفسها للمتلقي، فإننا في دائرة درامية يحركها الإبداع من
الخارج، ليقفز إلى عمق الداخل في ليونة وخفة ووعي يُحسد عليها، لا يستشعرها
المتلقي كثيرًا، موظفًا بذكاء راويه، الذي ظهر في خلفية النص في صورة الراوي
العليم الذي يحرك أبطاله في دراما الرواية أو القصة من الخارج، ليحيل النص في
النهاية إلى نص درامي بامتياز، من خلال ما يمكننا أن نسميه بخاصية (اختلاق الحدث) و(البناء عليه)، فرغم أن الموضوع الشعري
أبسط كثيرًا من استراتيجية بنائه؛ فهو موضوع في حب الوطن والتمثيل له بأوحية الشعر
وأماثيله وفنونه وألويته، إلا أن الإبداع أراد أن ينقلنا إلى هذا المعنى (المباشر) عبر شبقية تناقضية لافتة
غير مباشرة، من خلال اختلاق حدث شعري والتكريس له والبناء عليه كما قلنا، من خلال
هذا الشرطي الذي جاء كبطل من أبطال العمل الدرامي، في نص يستدعي كل موروفات
الرواية وأدواتها من زمان ومكان وشخوص وحدث وعقدة .
واختيار الشرطي كبطل من
أبطال العمل الدرامي في هذه الشبقية التناقضية قد يكون نوعًا من أنواع المواجهة
الضمنية لظواهر ما التي يفرضها الواقع لصالح تقليد بعينه أو إجراء لا يقبله
الراوي، أو يرفضه، وهنا يطرح السؤال نفسه هل أراد الإبداع صدم المتلقي في هذا
المدخل في نص من نصوص (حب الوطن)؟؟ !!! أم أن اختلاق الحدث
واختيار الشرطي جاء في ارتباط مزدوج ليخرج في النهاية بنتيجة حتمية يتفوق فيها
معنى (عشق الوطن) على الجميع، ولذا نجد
اختلاق الشخصية والشخصية المناقضة ؛ والشخصية المناقضة هنا هي شخصية البطل الرئيس،
الذي بدا مُرتبكًا خائفًا تحوم حوله سحابات الغضب وخيالاته من أثر إجراء شرطي
بتوقيفه وهو يسير في طريقه إلى حيث ما أراد، وهو ما دفع الإبداع وهو ينحاز إلى
الشعرية، ويؤسس لرؤيته المركزية أن يصبغ على المشهد رؤى المجاز عن وعي، فيوجز لفتة
الخوف والارتباك بتعبير مجازي محض، ولافت في الوقت ذاته، تستبقي فيه المعنى نواتجه
الدلالية، أو صوته الإشاري ويتبدى ذلك كله في قوله :
حاولَ أن يخفي رهبتَهُ
كادت أطرافُ أصابعِهِ
أن تسقطَ من كفيهِ
كذلك ابتناء اللغة في هذا
النص على نمطية جديدة، فهي لغة تشبه (لغة المرآة) تطابق الواقع وتعايشه
وتخالجه كثيرا، وتصوره من منظوري الفكرة والصورة ويأتي دور الرواي ليدلل عليهما
على حد سواء، ولغته النصية هنا تقوم على غواية من غوايات الحكي ألا وهي غواية
بناء النص على صناعة حوارية وجدلية، في مسار درامي جديد تستشعر فيها أن السرد
يقودنا فيه إلى دوائر دلالية تتعادل فيها ترادفية التناقض وضادية الاختلاف، ولذا
نراه كثيرا يلعب على دوائر الحوار خارجيا كان أو داخليًا من أجل رصد الموقف الشعري
والبناء على مُردفاته وإشاراته ومعطياته ورموزه، ومن ثم نجد أن حركة الحوار في المساحة
النصية السابقة، وهي (مساحة المدخل) كاشفة عن طبيعة أبطاله من
الداخل إلى الخارج عبر تنامي بنيات الحوار، وعبر توافقها مع عقلانيته الدرامية،
وهو بذلك يكسر طوق الجمود في الشكل النصي، أو هيكل التقليد في عرض الحدث الشعري،
كما أنه يستخدم فنية الحوار عبر أساليب تركيبية تعتمد كثيرا على بنيات (الاستفهام التكراري
التوليدي)، وهو استفهام يقصد من ورائه دائمًا تغيير دفة
الحوار إلى الوجهة الضدية أو التقابلية، من أجل وصوله إلى الغاية المقصودة في
قضيته .. قضية (الوطن) فبطلنا الذي يسير في
الطرقات، وهو يحمل في جيوبه أوراقًا وقصاصات من أشعاره في حب الوطن، هو نفسه البطل
الذي يحقق شرطي معه بلا جريرة، وفي الطريق العام !! فكأن الإبداع هنا أراد أن
يوظف فكر (الرفض) ولو كان ضمنيًا ليصل إلى
محط (اليقين) وهو ما كان ثابتا،
واليقين الوحيد الباقي أن الوطن فوق الجميع، وهو بذلك يستخرج من اللغة وظائفها
الحقيقية التي تحول متن النص من كونه متنًا يدور في فلك الحوار بين بطلين من أبطال
الحكي النصي إلى كونه نصًا محكومًا بقضية عامة تحركها مسارات الحكي يقول :
من أين أتيتَ ؟؟!
وماذا تُخفي في عينيكَ
أراك تُحاولُ أن تُظهِرَ بعضَ الغضبِ
هديء من روعِكَ
أفرغ ما في جيبكَ
والجميل في بنية الحوار
أنك تراه يعتمد على أساليب تركيبية واستفهامية في الدائرة الحوارية نفسها (ماذا تخفي في عينيك؟) أو يركبها على أساليب
الطلب (هديء من روعك)، (أفرغ ما في جيبك)، وهو في ذلك يدور في
حلقة توظيف البعد الإشاري في دائرة المعنى، وفي الكشف عن طبيعة التركيب لشخصياته
من الخارج إلى الداخل، ونحن في نص شعري، أو تركه للمتلقي ليعايشها من خلال السياق الحواري، أو من خلال نظرته
للحدث الشعري وكيفية تصعيده عبر محورية الدراما ونموها وعبر بنية الأساليب
وأدوارها، وهو بذلك أيضا يجعل اللغة الإشارية تتحول في الخطاب إلى طاقة تجسيدية
للأحداث والشخوص داخل السياق الشعري، من خلال نظرته لوظيفة اللغة داخل العمل، ومن
ثم فهو لا يذهب للمعنى أبدًا بسياقه المباشر أو بنيات لغته وتراكيبها وسياقاتها،
فالرجل لم يتكلم عن قضيته إلى الآن، وكل ما فعله أنه دار حولها، أو ترك المدلول
الإشاري يكشف عنها من خلال ختامه للمقطع:
نظرَ إلى بعض وجوهٍ
استوقفها الشرطيُ
وأقلقهُ ما خطَّ ملامِحَها
كان يُحاولُ ألا يُخرجَ
ما حاولَ أن يُخفيهُ
بعض من أبياتِ الشعرِ عن
الوطنِ
فخاتمة المقطع هي محور
النص كله أو عقدته ، فالرجل في قلب حدثية النص وتصاعدها وعبر راويه بدا في موقف
الحائر، والشرطي يحقق معه بلا جريرة أو ذنب، وحينما حاول الشرطي أن يفرغ ما جيبه
انكشفت عقدته وانحلت على هيكلية بائنة أو سطحية مباشرة، فما أخفاه في جيبه هي
ورقية في حب الوطن، أراد أن يخفيها لأنها لا تخرج إلا لمن يدركها أو يستحقها أو
يفهمها أو يعايشها عن يقين، ولذا جاءت خاتمة المقطع لتجيب عن أسئلة كثيرة، في لعبة
التقابل الموضوعي في حكائية النص أو في فكرة بنائه عبر اختلاق أدوار لشخوصه، وعبر
اختلاق دور للرواي الشعري، وهو ما أراده الإبداع نفسه أن يكون راويه هو ضميره الحي
في ظاهره وباطنه ؛ في لغته ومبانيها وصياغاتها، ولذا كان الراوي في النص مؤثرًا في
حركة المضامين، باعتبار أنه بات له دور في سياق الحركة النصية، ومنها دور التحكم
في صيغ الحكي والسرد الشعري، و تحكمه في إفراد مساحة لصيغ الحكي التي تتحكم فيها
ضمائر المتكلم والمخاطب (من أين أتيتَ ؟؟!/ وماذا تُخفي في عينيكَ/ أراك تُحاولُ أن تُظهِرَ
بعضَ الغضبِ/ هديء من روعِكَ/ أفرغ ما في جيبكَ) أو ضمائر الحديث بلسان الغائب ( نظرَ إلى بعض وجوهٍ/ استوقفها الشرطيُ/ وأقلقهُ ما خطَّ
ملامِحَها/ كان يُحاولُ ألا يُخرجَ/ ما حاولَ أن يُخفيهُ/ بعض من أبياتِ الشعرِ عن
الوطنِ) وهذه التبادلية في أدوار الضمائر، وتفعيلها في
سياق الحكي، والأخذ والرد، إنما هو من زاوية الكشف عن قضيته في سياق درامي خلق له
أكثر من دور وأكثر من شخصية وأكثر من سياق، وهذا ديدنه ، فقضيته أيسر من ذلك كله،
وهو حينما أراد أن يفسرها، يفسرها في لوحة من لوحاته ختامه.. فقال:
كان يُحاولُ ألا يُخرجَ
ما حاولَ أن يُخفيهُ
بعض من أبياتِ الشعرِ عن
الوطنِ
كان علي مَقربةٍ من أن
يُكملها
لم يتأخرْ في أن يفرغَ
كلَّ مشاعِرِه
حطَّ بها
رغبته في أن يكبَر في
وطنٍ يملكه
أول ما زارَ شغافَ القلبِ
حينَ ابتسمَ الحبُّ
عجائزُ حارتهِ افترشتْ
أبوابَ منازِلها في
ساعاتِ العصْر
وعيونُ النسوةِ
ترقبُ لحظةَ أن تأتيَ
الأزواجُ
وأصواتُ الباعةِ وشقاوات
الأطفالِ
ووجهُ أبيهِ إذا ما صلىَ
الفحرْ
وطنٌ يكبرُ في أعيننا
لا نملكُهُ إلا في أبيات
الشعر
فهذا هو وطن محمد الشحات
الذي بحثنا عنه طيلة النص، ووطن كل مصري يعيش على أرض هذا البلد، وطن تفترش
العجائز أبواب منازلها ساعات العصر وأوقات الأصيل، وعيون النسوة ترقب عودة الأزواج
من رحائل العمل والكد الطويل، وأصوات الباعة وشقاوات الأطفال يعزفون لحنًا وثيرًا تعرفه
كل البيوت، ووجه أبيه إذا ما صلى الفجر يبعث رسائل الرضا وديمومة الوجود، وطن
تجتمع فيه كل هذه المعاني على وتيرة الائتلاف وحميمة الشغف وروعة الحنين وقصائد
العشق والهوى وذكريات الحب الأول والأخير، وللأسف فشاعرنا وهو يسدل ستائره في ختام
أبياته، يعلن على الملأ أجمع بأن وطنه وطنٌ لا نلقاه إلا على أطراف المعاني وأروقة
الخيال وإشارات اللغة في أشعارنا الحائرة ما بين صدق المعايشة، وصدمة الوغز، وردة
الوجع، وحقيقة المجاز، ولذا فهو يرجع إلى دائرة درامته ليختمها بذكاء فيضفر معاني
البدء بستار الختام :
يتبعني الشرطيُ
فيحاول أن يستَوقفني
فأفركُ ما في جيبي
ويسقطُ مني الوطنث ولا
يبقى
إلا بعضٌ من بعضِ بقاياه .
وعلى نفس منهجية البناء
الدرامي وخلق أدوار للراوي ولشخوص أعماله نقرأ له هذا النص (حين تفِرُّ حُروفي) وهو معادل للنص السابق
من حيث فكرة البناء الموضوعي، واللعب على حيثية الوطن وأدواره، وهو ما شغله في
الفترة الأخيرة وانعكس على سياقات البناء الفني، و محاولته لإيجاد دور مُحفز للغة
يبعثها من جديد على حواف الفكرة وأطرافها، ليدخل في أعماقها بطريقته الخاطفة،
وليونته الدافقة غير المحسوسة، فتستشعر معها بأن اللغة في نصه لها دور بعثي نلاحظه
من العنوان ذاته، وهو عنوان حركي، يبث في الكلمات روح الأشياء، ولو كانت غائبة أو
هائمة في مدار آخر، فيجعل الأسماء سببية، ويربط بين صوته، حتى ولو جاء محمولا على
ضمائر الغيبة، وبين دلالة المعنى، متجاوزا للمشهد المصمت، ولا سبيل له في ذلك إلا
أن ينفخ في أشكال اللغة حتى تغدو مسكونة بالحركة والحيوية، ومن ثم يبقى النص في
نهايته وفي محور بنائه مجموعة من العلاقات الدلالية تتجلى بين متوالياته، وتتلاحم
في بناء منطقي محكم سواء على مستوى البنية السطحية أو البنية العميقة، لاحظ كيف
فرض راويه نفسه من مدخل العمل، والراوي هنا ولو كان حاضرًا أو محمولا على ضمائر
الغيبة إلا أنه يشعرك بكونه المعادل الحقيقي للشاعر نفسه، غير أن الشاعر قد ترك له
حرية تحريك الأحداث – ونحن في دوال نص درامي بامتياز – أو تحريك مسارات اللغة
حتى لتصل إلى المجازية بلا شك، والجميل في راوي محمد الشحات أنه يتصرف في النص
بذكاء، ويستغل مساحات الفراغ ليصعد من الأحداث، ولكن في انسجام تام مع عوالمه
المجازية – وهي من صناعته – وبغير حدود .. يقول الإبداع :
انطفأت كل مصابيحِ الفرحِ
فتاه،
استطرد،
ومضى يبحثُ عن كلماتٍ
كي يبذرَهَا
في أرضٍ
ظلَّ يقلب تربَتها كيما
تنبتُ شعْرًا
كان يظنّ بأنَّ الأحرفَ
مثلَ الأطفال
لا تأتي إلا حين
تُلاعِبُها
فلا تقسُ بقولٍ
طاوعْها إذا ما لانتْ
حتى لا تنكسر
فإذا استَعْصتْ
فاهجرها
فهكذا تقديمه لأعماله
يستلهم فيه دور الراوي ويبني عليه ويغرقنا في التفاصيل وتصاعد الأحداث وملماتها،
وراويه راوٍ من طراز خاص مسموح له أن يحرك الأحداث ويرصدها بدقة وأمانة من منظور
الرؤية بداية أو تلاقي الأفكار بينه وبين بطله الرئيس، وأن يفتح مدارك الوصف من
موقعه ويربطها بوقع الحركة الموضوعية وتناميها عبر السطور الشعرية، وعبر حركية
الأداء، وأن ينتقل حرًا من الحقيقي إلى المتخيل، ومن المتخيل إلى الحقيقي، وهو
يرصد زمنًا كاد الوطن فيه أن يسقط، أو يضيع على عتبات الخلاف والصراع والثورات
الوهمية والمصنوعة والمدبرة، ولذا فهو يختلق لحركتي الوصف والحدث بطلا يرصد
الأحداث ويتفاعل معها على درجة من درجات الوعي، ويتوحد معه على أيقونة الخلاص من
عبث العابثين وكيد الكائدين، والجميل أن الراوي وهو يحرك الأحداث، حتى ولو كانت من
منصة الضمائر الغيبية فإنه يشعرك بأنه صاحب الحق في تشكيل النص، وفي ضبط توجاهاته
أو ركائزه أيدلوجية كانت أو خارجها، ومن خلال توجيه البطل ورصد تحركاته في آن واحد
وفي لقطة لافتة .. لاحظ قوله، وقد كشف عن صدمته – من خلال راويه – في
رجة الوطن وهزته، ومخافة سقوطه أو تفككه بقوله صراحة: (انطفأت كل مصابيحِ الفرحِ) ثم لاحظ كيف ابتنى على
وقع الصدمة حركة بطله وربطها بمحور التيه بقوله : (
فتاه… ومضى يبحثُ عن كلماتٍ… كي يبذرَهَا في أرضٍ.. ظلَّ يقلب تربَتها كيما
تنبتُ شعْرًا… كان يظنّ بأنَّ الأحرفَ.. مثلَ الأطفال… لا تأتي إلا حين
تُلاعِبُها).
إذن فهذا هو محمد الشحات
في ديمومة إبداعه يرصد الحدث الشعري ويبني عليه من أكثر من زاوية، وقصده في ذلك
كله أن يداعب متلقيه من وحي الاختيار، أو من منصة حديثه، باعتباره نقطة الانطلاق،
خاصة إذا كان هذا الحدث حدثا دالا يستحق استدعاء المتلقي أو إثارته على وجه
اليقين، والراوي الشعري هنا في مدخل العمل راوٍ لا يحرك الأحداث فحسب ولكنه أيضًا
يتحكم في مسارات اللغة، ويصل بها إلى المجازية دائمًا من وحي بنائه، حتى في
مداخله، وحضوره يتجسد عبر انتهاكاته، وقدرته على استغلال مساحات الحركة في النص،
على نقيض الراوي في الرواية أو القصة الذي يعكف كثيرًا عن العبث بالقواعد، أو
التماهي مع حركة المجاز، في حين يعتبر الراوي الشعري أكثر حرية وانسيابية
وانسجامًا مع العوالم المجازية وبغير حدود .
والراوي هنا وبعد أن عايش
لحظة الخوف/ الصدمة، وتناغم مع بطله في تحريك دفة الأحداث من
خلال تحكمه في دينامية النص، وفي فتح مدارك الوصف من موقعه، وانتقاله الحر من
الحقيقي إلى المتخيل، نراه يتمادى في هذه الدائرة تحديدًا وهو يرى الوطن – عن حق –
مُهددًا بالسقوط – كما سقطت أوطان أخرى تجاوره على قارعة الضياع والتفكك والذل
والحاجة والهوان، ورأى الشعوب ترحل من أوطانها وتغرق في محيطات اليأس والقنوط
والهلع والموت السريع، ولذا يشرع في تمكين دوائر وصفه من هيكيلية العمل، ليحيل
الصدمة إلى واقع مثير، وهو الذي كان من قليل يداعب الكلمات، ويراها طفلا جميلا أو
نبتًا يُبشر بالنمو والزخم والخيرات، ولذا لا يفتأ الإبداع هنا من زاوية راويه أن
يستدعي المُتلقي من جديد من وجهة المشاركة في إدراك الحقيقة، ونحن على طريق الضياع
أو السقوط أو الرضا بالواقع المحتوم، وهو في ذلك كله يبحث عن لحظة المواجهة مع
العمق النصي ليبني من جديد رؤيته البنائية، والتي تشعرك بأنه تتحكم فيه رؤية
خارجية واحدة ؛ رؤى راويه وقد التحم مع بطله المصدوم، الذي كان يبحث عن عصفور
الشعر في شجر الأوهام والسحر والعشق الفريد، يقول وقد نجح كثيرًا في تحويل مسار
السرد من لحظة النسيان إلى صدمة المواجهة في لقطة أقرب إلى وحي الخيال :
ظلَّ يُحاولُ أن يبني
كلَّ
بيوتِ الشعرِ
ويمسكُ أحرفَه ويُقلبَها
ليكتبَ عن ولهِ العشاقِ
وهامَ
حتى انطفأتْ جُذوتُهُ
انكسرَ الحرفُ
فعاندَهُ
استعصى
حين رأىَ الأطفالَ تموتُ
ودماءً تكسو الأرضَ
ومآذنُ شارعِهِ تبكي
وكنائسُ غطاها الحزنُ
هرِبَتْ منهُ الكلماتُ
انفرطت أحرفُهُ
حاول أن يُمسكها
فتعثَّر وبكى
ورأى مَا شابَ له رأسُ
الولدان
أخرسَه مَا شاهَدَهُ
ظنَّ بأن الأحرفَ ماتت
لم تُسعفهُ الكلماتُ
ليكتب عن وطنٍ يبكي في
أيام
العيد
ومن يقتلُ نفسًا
كان الصوتُ يجيء منَ
المذياعِ
فيسكنُ
في همهمةِ العُبَّاد
بكل بيوتِ الله
ويُغطي وجهَ الأرضِ
انطفأتْ شجرةُ أعيادِ
الميلادِ
وجف الحلقُ
وأصبحت الأحرف كالسكين
فبكى
إن حركة النص وقد بلغ
عقدته وكشف عن وجه الصدمة ولحظة الضعف والانكسار، والخوف من متاهة الضياع والسقوط،
انتقلت من حركة الرصد لراوي النص من الخارج إلى الداخل، من موقع المشاهد إلى موقع
المشارك، ولو بالصفة الضمنية، مُتحدًا مع بطله الموهوم الذي دام يبحث عن سحر
الكلمات في دفتر العشق القديم، وفي صفحات العشاق وصور الأحبة، وفي أرض النسيان
والأساطير والأحلام، ليفيق مرة واحدة على وجه من وجوه الحقيقة الصارخة، وهو يرى
الوطن يحترق والشباب والأطفال والنساء تموت في الميادين والطرقات والمدن، ومآذن المساجد تبكي وتستغيث والكنائس تسقط
وتهوي وتحترق وتضيع، والوعي يغيب في لحظة من لحظات الانفلات والتمادي والصحوة
البائسة والثورة المزعومة والسرمدية الواهية، لتنطفيء جذوته، وينكسر حرفه ويعانده
ويستعصي عليه ويكابره، مُحطمًا آماله في الغد الجديد، فقد اكتست الأرض بدماء
الحالمين بغد الأحرار، وشمس الواهمين بالحرية الجديدة على معناها المطلق، فماتت
بين يديه الأحرف، ولم تعد تسعفه الكلمات، وهو يرى وطنًا بحجم وطنه يبكي في أيام
العيد، ويرى المساجد وقد اتشحت برايات السواد، وانطفأت أشجار أعياد الميلاد وذبلت
وماتت، وغابت البهجة في يوم العيد، وغاب حلم الجميلات، ومعنى العشق وزمن اللقاء .
ونلاحظ أنه في كل هذه
المعاني المتوهمة بفكرة سقوط الوطن، والدوران حولها ووقوف الإبداع منها موقف
الراوي والبطل والراصد والحكاء، والحديث عن مشهد الوصف بلون من ألوان التفاصيل
والقص حين رأى (الأطفال تموت، والدماء تكسو الشوارع والميادين،
والمساجد تبكي، والكنائس تستغيث، وأشجار الميلاد تذبل وتموت) كلها من مورفات الحكي السردي
– طويل النفس – عند محمد الشحات، هذا إضافة إلى حديث الراوي عن طبيعة الحدث
الموضوعي بصيغة ضمائر الغائب رغم حضوره الطاغي – على طبيعة الرواية والقصة
– ومقصده من هذا كله، وهو المتوحد مع بطله، أن يمد العمل بأسباب الحكي، وينفخ في
الحركة المجازية المنسابة عبر دفقة السطور الشعرية بأسباب الوجود، فقد حافظت لعبة
الضمائر على لسان الراوي على كثافة حضوره الشعري بوعي مقصود، وحافظت كذلك على وحدة
التماسك النصي، كما حافظت على سلاسة السرد وتبعيته، ونموه على سياقات الحكي بوعي
مقصود يحسب للراوي الشعري أو السارد الشعري بجلاء، وكأننا لسنا أمام لوحة وصفية
بقدر ما أننا أمام لوحة دراماتيكية تكاملت أجزاؤها عبر صيرورة الحكي وطاقات السرد،
بداية من فكرة الحلم، والبحث عن مصابيح الفرح، والتي وضعها على رأس العمل مرورًا
بجدلية الخوف من فكرة سقوط وطن بحجم وطنه، ووصولا إلى عتبة المُنى ورجائية الدعاء،
والتي تجلت في لوحة الختام في قوله:
فيارب الكتبِ
وقد زانتها آياتُك
امنحني عزمَكَ
قلبي ما عادَ به ركنٌ
إلا غمرتْهُ الأحزانُ
وغطَّته اللوعةُ
فإذا ما جاءَ الصبحُ
فدعني
أمسكُ ما تمنحني
من كلماتٍ
لأبذرهَا
كي تنبت في يومٍ
تشرقُ فيه الشمسُ
قصائدُ في حب الوطنِ
وأنجو
فالمتتبع للوحة الختام
يلمس بنفسه تبادلية الحركة الحكائية وشفافيتها بين (الراوي) و (بطله) في تناغمية خاطفة توحدت
فيها المعاني على لسان واحد، فالأمر بات خطيرًا، لا يحتمل أكثر من لسان ولا أكثر
من دور، فالوطن على مشارف الهواية والسقوط، ولم يعد يجدي معه سوى الوقوف على أبواب
الدعاء لرب العباد ؛ رب الكتب والآيات بأن يمنح الإبداع عزائمه، فالقلب ما عاد فيه
ركن إلا وقد غمرته الأحزان وغطته الغموم والكبوات، كي يبذر إذا ما عاد الصباح
كلماته ونغماته وشجونه، علها تنبت قصائد تعيد للوطن حياته، فتكون سبيل النجاة .
وبعيدًا عن تلقائية الأداء في لوحة الختام
واتكاؤها على مربطي الصورة المجازية، والخطاب المباشر، والاتكاء أكثر على فاعلية
أداء الطلب – وما يترتب عليه – الذي لم يعد هناك وسيلة غيره (امنحني، ودعني أمسك ما
تمنحني، كي تنبت في يوم قصائد في حب الوطن …. إلخ) فإننا نلحظ أن الإبداع
هنا قد وجد ضالته في مشهد الختام، خاصة وأنه قد تجمعت له جل عوامل البناء السردي،
ودفعته بنية الطلب ختامًا والوقوف على أبواب الرحمن، إلى الوصول إلى منطقة اليقين
والانفراجة والحل من وجهة نظره، وتبادل الأدوار بينه وبين راويه على درجة من درجات
اليقين، والتوحد معه في ضمائر الغيبة والحضور، وهو ما يُعد تمثيلا حيًا لتنامي
فكرة البناء الدرامي، والترشيح له بأكثر من حدث، والدوران حول فكرة تبادل الأحلام
وعوالمها من الخوف والرضوخ والاستسلام إلى الأمل والتجدد والرجاء، وبالتالي تبدل
الإيقاع ذاته، وهو ما يتجاوز انكسار الذات والانعكاف على الخوف، وانتفاء الأمل .
إذن فقد كشف المقطع
الأخير عن كيفية اصطياد الإبداع لمحور (الانفراجة)، والتي بدت أكثر في
تيسير حل خيوط الأزمة وفكها، بالوقوف على أبواب الرحمن والإمساك بتلابيب رحمته
ورضاه، ومن ثم بات الخلاص من أزمة الوطن ميسورًا، وبات الأمل عنوان النهاية وروح
الختام، وباتت الكلمات في صحوة وهي تستشرف شروق شمس يوم جديد تتآلف فيه المعاني
على حب متجدد، وعشق تبدأ مواويله من صفحة عشق شغوفة … اسمها صفحة (عشق الوطن) .