أبعاد ومخاطر تجدد الاشتباكات في العاصمة الليبية طرابلس
إعداد: نهى أحمد عبد الرحمن
باحثة دكتوراه في الشئون الأفريقية
في الوقت الذي يشهد فيه الإقليم حالة من عدم الاستقرار الأمني ، تصاعدت الأحداث في المشهد الليبي، حيث تجددت الاشتباكات بين الميليشات المسلحة في طرابلس ، وتم مقتل رئيس أحد أكبر الفصائل المسلحة في طرابلس ، مما صعد من أحداث العنف الجارية فيها ، ووصفت تلك الأحداث بأنها الأعنف منذ سنوات ، مما ينذر بأزمة متجددة لن تتوقف إذا لم تقم السلطات الليبية بمعالجة أمنية شاملة تنهي حالة عدم الاستقرار الأمني في ليبيا .
مواجهات بين الفصائل المسلحة في طرابلس
شهدت عدة مناطق في العاصمة طرابلس يوم الاربعاء الموافق 12 مايو ، وتم الإعلان عن مقتل عبد الغني الككلي ، زعيم جهاز الدعم والاستقرار ، وهي جماعة مسلحة لها نفوذها و مقرها في جنوب طرابلس. واندلعت الاشتباكات في جنوب طرابلس بين جماعات مسلحة من طرابلس داعمة لحكومة الدبيبة وجماعات مناوئة من مصراتة ، وهي مدينة ساحلية رئيسية تبعد 200 كيلومترشرق العاصمة. وتشهد طرابلس منذ سنوات حالة من تجدد لاشتباكات بين الجماعات المسلحة المتنافسة على الأرض.
وكان عبد الغني الككلي، أحد أكثر قادة الميليشيات نفوذًا في العاصمة، قد تورط مؤخرًا في نزاعات مع جماعات مسلحة منافسة، بما في ذلك فصائل مرتبطة بمدينة مصراتة. يخضع جهاز دعم الاستقرار التابع له للمجلس الرئاسي الذي تولى السلطة عام 2021 مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة من خلال عملية مدعومة من الأمم المتحدة.
ويسيطر على العاصمة طرابلس عدة قوى وميليشيات محلية وإقليمية أبرزها قوة عدم الاستقرار التي كان يقودهاعبد الغني الككلي والتي تهيمن على منطقة أبو سليم . وقوة الردع الخاصة التي يقودها عبد الرؤوف كارة والتي تسيطر على منطقة سوق الجمعة . بالإضافة إلى اللواء 444 والذي يقوده محمود حمزة والتي تتمركز في منطقة سوق الجمعة . أما قوات وزير الخارجية عماد الطرابلسي فتهيمن على بعض المناطق في طرابلس . وقد اندلعت الاشتباكات الأخيرة بين قوة الردع والمدعوم بقوات متحالفة واللواء 444 التابع لوزارة الدفاع في مناطق رئيسية بالمدينة ، بما في ذلك الميناء.
أسباب المواجهات:
يرجع السبب الرئيسي للاقتتال الأخير بين المجموعات المسلحة في طرابلس للصراع على السلطة وهو المعتاد بين الجماعات المسلحة التي تتمتع بشرعية من الحكومة . حيث سيطر اللواء 444 على مقار الأجهزة الأمنية تنفيذاً لقرار الدبيبة رئيس حكومة الوحدة ، غير أن جهاز الردع عاد واسترجع المقرات الخاصة به من اللواء 444 ، اندلع على أثر ذلك اشتباكات عنيفة في العاصمة طرابلس . في خضم هذا الاضطراب ، سعت الأمم المتحدة لإعادة إطلاق جولة جديدة من المفاوضات السياسية بين الفصائل المختلفة بهدف تنظيم الانتخابات في أقرب وقت ممكن. وأدانت التصعيد السريع للعنف ودع ت لوقف فوري لإطلاق النار وحماية للمدنيين في العاصمة.
تجدد المواجهات بين المجموعات المسلحة في طرابلس لا يمثل أمراً مفاجئاً:
وذلك نظراً لما تشهده الدولة الليبية ” بشكل عام ” وطرابلس ” بشكل خاص ” ، منذ انتفاضة 2011 والتي أطاحت بمعمر القذافي ، والذي يمكن تلخيصه في الآتي:
– فشل إجراء انتخابات وتشكيل حكومة موحدة:
منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، عانت ليبيا من الانقسام. حيث تنقسم بين إدارتين رئيسيتين متنافستين: الحكومة المتمركزة في الشرق، والمدعومة من البرلمان، والحكومة المتمركزة في الغرب في طرابلس، والمدعومة من المجلس الرئاسي. كما لم تتمكن ليبيا من إجراء انتخابات عامة في ديسمبر 2021 كما كان مقررًا سابقًا، بسبب خلافات بين الأطراف الليبية حول قوانين الانتخابات.
– هشاشة الوضع الأمني:
تشهد طرابلس حالة من تجدد الاشتباك منذ توقيع اتفاق «وقف إطلاق النار» في ليبيا 23 أكتوبر2020 بين حكومتي السراج وصالح عقب الانقسام السياسي بين جبهتي غرب ليبيا وشرقها الذي امتد منذ عام 2014 حتى توقيع وقف إطلاق النار. وآثار الجمود السياسي، الذي تعانيه ليبيا، مخاوف قطاعات عديدة بالبلاد، ولا سيما في طرابلس، والتي تشهد التناحر بين تشكيلاتها المسلحة من آن لآخر.
– انتشار وتمدد الجماعات المسلحة (القوات المسلحة الهجين):
منذ انتفاضة 2011 شهدت ليبيا ظهور جهات مسلحة ، كما تشكّلت وحشدت جهات أخرى كثيرة، غالبًا على خلفية صراعات محلية وداخلية؛ ففي أكتوبر 2011 دعا المجلس الوطني الانتقالي المجتمعات المحلية إلى تشكيل مجالس محلية ومجالس عسكرية في المدن التي لم تشهد قتالًا كبيرًا. وكان الأساس الذي استند إليه هذا القرار هو أنه في حالة غياب جهاز أمن دولة فاعل، يمكن لهذه الهياكل البديلة أن تلعب دورًا في فرض الأمن المحلي. غير أن العملية التي أدت إلى تشكيل هذه المجالس غذّت التوترات داخل المجتمعات ذات الانقسامات الطائفية القائمة مسبقًا .
حاولت سلطات ما بعد عام 2011 إخضاع معظم هذه الجهات المسلحة المحلية – بغض النظر عن الخلفية التي تشكلت فيها.كان من المفترض أن تتولى هذه الجهات مهام إنفاذ أمن محددة أو التعامل مع تهديدات ناشئة،كالإرهاب. وكجزء من جهود الدولة لإعادة دمج المتمردين السابقين،وفرت هيئة شؤون المحاربين فرصًا لبناء القدرات بناءً على خلفياتهم وتطلعاتهم؛ وتم تسجيل 250 ألف متمرد سابق أعلنوا أنفسهم متمردين سابقين بحلول منتصف عام 2013. وكانت الكتائب الثورية الرئيسية (وخاصة تلك القادمة من مصراتة والزنتان) إما تُزود بالأسلحة باستمرار من دول أجنبية، أو اشترت أسلحة أو نهبتها من مستودعات النظام. ولذلك، خرجت من الحرب الأهلية عام 2011 وهي تمتلك معدات وموارد أفضل بكثير من القوات الرسمية التي كان من المفترض أن يُعاد دمجها فيها . مما يضعف من إمكانية وجود رؤية استراتيجية وطنية لبناء جيش ليبي وطني موحد والتي من خلالها يمكن إعادة هيكلة الجيش في مرحلة مابعد انتهاء الصراع
وكامتداد لما عايشته المنطقة العربية ، من تراجع فكرة الدولة ، واكتساب الفاعلون المسلحون من غير الدول حيزاً أكبر للتمدد ، وتعزيز النفوذ ، وتقديم أنفسهم ككيانات بديلة للدولة، ومن النماذج على ذلك ، سوريا والعراق واليمن ، فقد نازعت الفصائل المسلحة في ليبيا مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية في القيام بأدوارها التقليدية،فبعدما كانت تمثل المعارضة المسلحة المرفوضة مجتمعياً في غالبية دول الإقليم ، صارت أداة سياسية يتم من خلالها الضغط على استقرار الدول والتلويح بتدخلاتها العسكرية، وهي مايطلق عليها (القوات المسلحة الهجين داخل الدولة الهجين) .
ومن ثم صُممت هذه الكيانات في ليبيا لتكون بدائل “مؤقتة” للجيش والشرطة، وكانت في الأساس أدوات يمكن من خلالها لأصحاب المصلحة المتنافسين استقطاب الجهات المسلحة مؤقتًا.شملت هذه الهياكل اللجان الأمنية العليا، وقوات درع ليبيا، وحرس الحدود، وحرس المنشآت النفطية. وقد ضمن الانتماء إلى هذه الكيانات للجهات المسلحة تدفقًا ثابتًا من الدخل دون أي مساهمة تُذكر في تعزيز احتكار الدولة لاستخدام القوة. ولم تدم سياسة الاستقطاب هذه طويلًا، إذ اختارت معظم السلطات الانتقالية الليبية المتعاقبة، وكذلك الدول الأجنبية ذات المصالح في ليبيا، استخدامها لتأكيد سيطرتها على الأراضي أو لتأمين مصالحها.
ومع إضفاء الطابع المؤسسي لتلك الفصائل ، ووصول ممثليهم لأعلى المستويات القيادية في الجيش ، والأجهزة الأمنية الأخرى ، قاموا بفرض سيطرتهم تدريجياً على مفاصل الدولة ،ولم يبرز قادة الميليشيات أنفسهم كقادة رسميين للوحدات العسكرية فحسب ، بل أيضًا كبار المسؤولين الحكوميين. ومن الأمثلة على ذلك وزير الداخلية في الجنوب عماد الطرابلسي ؛ ونظيره في الحكومة المتنافسة في الشرق عصام بوزريبا – شقيق نائب قائد جهاز دعم الاستقرار حسن بوزريبا – ونائبه فرج الجميل. وبالتالي أصبحت الجماعات المسلحة تمثل الدولة الليبية فعلياً. والتطورات الأخيرة تدعو إلى إعادة ترسيم التوازنات العسكرية في قطاع الأمن الليبي. حتى الآن يتم إلى هذه القوات على أنها ميليشيات ،أو مجموعات مسلحة ، على الرغم من وضعها الرسمي ، ليست في الواقع كيانات حكومية لأنها تمثل مصالح معينة. غير أن إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الجماعات والتأثير السلبي لقادتها على أعلى المستويات يظهر أن تلك الميليشيات أصبحت الدولة.
– إعلان الدبيبة إقصاء الميليشات من المشهد الأمني في طرابلس:
عقد رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة اجتماعًا أمنيًا رفيع المستوى في مكتبه الوزاري يوم الاثنين الموافق 14 مايو ، وشدد خلاله على أن وقت الأجهزة الأمنية الموازية (الميليشيات) قد انتهى ، وأنه لا يوجد مكان في ليبيا باستثناء المؤسسات النظامية للجيش والشرطة ،كذلك وجه وزير الداخلية بالنيابة لتفعيل خطة تأمين المؤسسات والمناطق من خلال وزارة الداخلية ، مما يعكس عودة السلطة الأمنية إلى مظلتها الشرعية .
ختاماَ ، عكست أعمال العنف في طرابلس الحاجة لإعادة صياغة استراتيجية تفضي إلى معالجة أمنية شاملة ، من خلال إتباع نهج يقضي على سبل الفساد التي تحد من إصلاح قطاع الأمن ، وأن يتم تجنب تمويل الفصائل المسلحة من أطراف داخلية أو جهات خارجية ، وإيقاف إمدادها بالسلاح ، وهو ما يستلزم نزع السلاح عن تلك الميليشيات و تسريح العناصر المسلحة ، حتى لاتتجدد تلك الاشتباكات في مراحل تالية ، وإيجاد أطراف خارجية تعمل على إمداد الحكومة بالدعم اللازم لتنفيذ تلك الاستراتيجية حتى يتم تسريح وإعادة دمج الفصائل المسلحة في المجتمع مرة أخرى.