وضاح اليمن وأم البنين .. بين الحقيقة والوهم
كتب/ حسين السيد
(1)
عدت بشغف –فى وقت فراغى- إلى كتاب الأغانى لأبى
الفرج الأصفهانى، وقرأت عن الشاعر وضاح اليمن، ولم أرتضِ بما كتبه أبو الفرج عنه، وقلت
إنه تلفيق، وليس بصحيح ما رواه عن قصة الحب التى جمعت بينه وبين “أم البنين”
التى كانت زوج الخليفة الأموى الوليد بن عبدالملك، كما أنها كانت ابنة عبدالعزيز
بن مروان وأخت الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز.
وضاح اليمن لقبٌ غلب على الشاعر عبدالرحمن بن
إسماعيل بن عبد كُلاَل، واختلفت الأقوال فى نسبه، فتارة يُنسب إلى الفرس وتارة أخرى
إلى العرب، ونسبه إلى الفرس راجع إلى أن سيف بن ذى يزن عندما أراد طرد الأحباش من
اليمن، استعان بالفرس، وتم له النصر، ولم يرحل الفرس عن اليمن بل بقوا فيها وتزاوج
العرب فيهم، فأطلق على أولادهم “الأبناء”، ولهذا نجد معظم الكتب التى أُرخت
لحياة وضاح اليمن تصفه بأنه “أحد الأبناء”، أى من أبناء الفرس الذين
استقروا باليمن واتخذوها موطنا لهم، ورُّجح كونًا فارسيًا أن أباه توفى وهو صغير
فتزوجت أمه فارسيًّا، فلما كبر نسبه إلى نفسه، فجاء عمه وجدته من أبيه لأخذ ابنهم
وضاح، فامتنع الفارسى عن تسليمه إلى أهله، حتى فصل بينهم الحاكم وحكم بأنه لهم، أى
للعرب، ومسح الحاكم يده على رأسه وأعجبه جماله وقال له: اذهب فأنت وضاح اليمن.
كان وضاح جميلاً وسيمًا وفتَّانًا حتى إنه هو
والمقنع الكندى وأبو زبيد الطائى يردون مواسم العرب مُقنَّعين يسترون وجوههم خوفًا
من العين وحذرًا على أنفسهم من النساء لجمالهم، كما ذكر أبو الفرج.
وكما اختلفوا فى نسب وضاح اختلفوا أيضًا فى نسب
المرأة الأولى التى أحبها، هل هى فارسية أم عربية؟ فبعضهم رأى أنها فارسية، وبعضهم
الآخر يراها من اليمن، لكنهم لم يختلفوا فى اسمها، وذلك ليس بعجيب لأن وضاحًا نفسه
صرح باسمها وهو “روضة”، وفيها يقول:
يا روضة الوضاح قد عَنَّيْتِ
وضاح اليمن
فاسقى
خليلك من شراب لم
يُكَدِّرْه الدرن
ولم يكتب لهذا الحب النجاح، لأن “روضة”
تزوجت آخر، وأصابها الجذام، فبكاها شاعرنا بكاء مرًا.
أما المرأة الثانية التى أُغرم بها وضاح فكانت
“أم البنين” زوج الخليفة الوليد بن عبدالملك، وهنا تتعدد أيضًا الروايات
حول هذا الأمر، فمثلاً البَلاذُرى يذكر أن “أم البنين” هذه إنما كانت أم
البنين بنت المخترم وليست بنت عبدالعزيز بن مروان، وأنها كانت امرأة جميلة فعشقها
وأحبته وكان زوجها من حِمْيَر، وأنها هى التى قالت:
يا
وجه وضاح لقد أورثت قلبى حَزَنَا
وكان وضاح لنفسى ويْحَ قلبى شجَنَا
ولما سمعها زوجها تقول هذا طلقها.
كما يروى أيضا البَلاذُرى، أن أم البنين بنت المخترم
امرأة كانت للوليد بن عبدالملك، تزوجها من أهل البادية، وكان وضاح اليمن قدم على
الوليد قدوم الشعراء فعلقته أم البنين، وبلغ الوليد أمره ففعل به خادمه بأمره.
وأنت ترى أن أم البنين هذه مختلف عليها، هل هى بنت
عبدالعزيز بن مروان أم بنت المخرم، وهل كان زوجها من حمير أم الوليد بن عبدالملك؟
صحيح أن البلاذرى أكد بعد ذلك أنها بنت عبدالعزيز بن مروان وأن زوجها هو عبدالملك
بن مروان، لكن هناك التباسًا فى الأمر كما هو واضح من اختلاط الروايات.
ونأتى بعد ذلك إلى الرواية الأشهر التى تذكرها كتب
التاريخ، وأغلبهم قد استقاها من أبى الفرج الأصفهانى مع بعض التغييرات الطفيفة، فزعموا
أن أم البنين بنت عبدالعزيز بن مروان استأذنت الوليد بن عبدالملك فى الحج فأذن
لها، وكان الوليد يغار على نسائه، فتوعد الشعراء إن ذكرها أحد منها أو ذكر أحدا
ممن تبعها، فأرسلت أم البنين إلى كُثيِّر عزة وإلى وضاح أن انسبا بى أى صفانى
وامدحانى، فكَرِه كُثيِّر ذلك ومدح جاريتها “غاضرة”، وأما وضاح فإنه ذكرها،
ثم أمرته أن يذهب معها إلى الشام ليكون بجوارها، ومدحَ الخليفةَ فأحسن عطاءه وأجزل
صلته، وعشقته أم البنين، وكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها!! فإذا خافت
وارتْه فى صندوق عندها وأقفلت عليه. وأُهدِى إلى الوليد جوهر أعجبه واستحسنه،
فأرسله إلى أم البنين مع خادم له، ودخل الخادم على أم البنين وكان عندها وضاح، فأدخلته
الصندوق والخادم يرى ما تفعله، فساومها على حجر منه، فنهرته أم البنين، فانتهز
الخادم الفرصة، وأبلغ الخليفة بما رآه فى حجرة الملكة، فقام الوليد بضرب عنق
الخادم، وذهب إلى غرفة أم البنين وكانت تمشط شعرها، وقال لها: هبى لى صندوقا من
هذه الصناديق، قالت: كلها لك يا أمير المؤمنين، قال: ما أريد إلا الصندوق الذى
أجلس عليه، وكان الخادم قد وصفه له، فقالت: خذه يا أمير المؤمنين، فدعا بالخدم
وأمرهم بحمله، حتى انتهى إلى مجلسه وضعه فيه، وأمر بحفر بئر عميقة، حتى إذا ما
انتهوا من الحفر دعا بالصندوق، فقال الوليد كلمته الشهيرة: يا هذا إنه بلغنا شىء
إن كان حقا فقد كفنَّاك ودفنّاك ودفنَّا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر، وإن كان
باطلا فإنا دفنَّا الخشب وما أهون ذلك، ثم قذف فى البئر وهيل عليه التراب وسويت
الأرض.
وأضاف صاحب الأغانى أنه ما رُئى بعد ذلك اليوم لوضاح
أثر فى الدنيا إلى هذا اليوم، وأن أم البنين ما رأت لذلك أثرا فى وجه الوليد حتى
فرق الموت بينهما.
انتهت القصة العجيبة وصدقها الناس، حتى إن الجاحظ
نفسه أكد ذلك فقال: ثلاثة من العبيد قتلوا بسبب العشق، منهم يسار الكواعب، وعبد
بنى الحسحاس، ووضاح اليمن، كما ذكر أبو منصور الثعالبى فى كتابه “ثمار القلوب
فى المضاف والمنسوب إليه”.
لكن كل هذا ليس حقيقة أو واقعا، فلم تدخل أم البنين
وضاحا إلى مخدعها، ليتسامرا أو يتطارحا الحب، حاشا لله أن تفعل هذا أخت الخليفة
الزاهد عمر بن عبدالعزيز.
وللقصة بقية.