قراءة وعرض: حسين السيد


" />
رأى

حوار بين المأمون والمُرتد

 

Z

             

    قراءة وعرض: حسين السيد

عند
قراءتى لفصول كتاب “عيون الأخبار” لابن قتيبة الدينورى، توقفت عند الجزء
الثانى من الفصل المُعنون: “كتاب العلم والإيمان” وفى أسفله “الرد
على الملحدين”، ولا أستطيع أن أخفى إعجابى بالحديث الذى دار بين مُرتد إلى
النصرانية وخليفة المسلمين “المأمون”، خاصة إجابة المأمون الذى كان
واثقا كل الثقة بدينه وعلمه وقدرته على الحِجَاج، فمن المؤكد أن الرجل ترك الإسلام
لأسباب قد تكون من وجهة نظره منطقية، ويستطيع أن يخوض فى الإسلام، ولا غرو فى ذلك
فقد كان فى الأصل مسلما، ومن ثم أن ينازع الخليفة فى إجاباته، ويدحض الحجة بالحجة
والبرهان، ولكِنْ أن يتصدى له المأمون فهذا يعنى أنه يرى فى نفسه القدرة على
الإقناع لأنه ببساطة سيستخدم عقله الذى يؤمن به المعتزلة أيما إيمان، وهذا أيضا
يوضح دور علم الكلام وأهميته فى مواجهة التيارات المنحرفة الضالة، وما أحوجنا إليه
فى عصرنا الحاضر الذى يمتلئ بالدعوات الهدامة والفرق الضالة
.

والأمر
الآخر، أن المأمون لم يطبق على المرتد الحد مباشرة، وإنما تركه يبين لماذا ترك
الإسلام واتخذ النصرانية دينا له، ولما رأى ضلاله، أقنعه بالحجة والمنطق أن
الإسلام هو الدين الصحيح، وأنه ليس به اختلافات كما زعم، وطبعا الحوار كان راقيا
إلى أقصى درجة، فبدأ المأمون حديثه بقوله:”خبِّرنا”، وليت المسلمين الآن
يعرفون أن الإسلام هو دين الاحترام والحضارة والرفعة والسمو، وأنه يدعونا إلى
مجادلة الآخرين الذين لا يؤمنون به بالتى هى أحسن، فأعرف رجلا من أهل الإسلام لا
يخاطب الآخرين إلا بقوله: أنت يا… تعال يا… روح يا.. وكأنه يريد أن يحط من
قدره، لكن يأبى الله إلا أن يرفع قدره ومكانته
.

وبيَن
المأمون أن الاختلاف فى الإسلام نوعان، الأول وهو الاختلاف فى الجزئيات وهو اختلاف
لا يضر إطلاقا بل هو رحمة وتخفيف ويسر للناس، كالاختلاف فى الأذان، والتكبير فى
الجنائز، والتشهُّد، وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، ووجوه
الفتيا، وغيرها من الاختلافات الأخرى، فهذه لا تُعد اختلافات بالمعنى الحقيقى
وإنما هى آراء متعددة فليعمل بها من شاء وليدعها من شاء.

سأضرب
مثلا فى شأن الطلاق عندنا نحن المسلمين، فقد خالف الإمام الكبير “ابن
تيمية” رضى الله عنه الأئمة الأربعة فى هذه المسألة؛ حيث رأى الجمهور أن
الطلاق يقع بالعدد الذى تلفظ به، فإن قال: أنت طالق بالثلاثة، أصبحت منه بائنا،
ولا تحل له حتى تتزوج رجلا غيره، ويطلقها. لكن ابن تيمية قال: “إذا طلقها
ثلاثا بكلمة، أو كلمات فى طهر واحد، فلا يقع إلا طلقة واحدة”. كما أن ابن
تيمية يرى عدم وقوع طلاق الحائض، وكذلك عدم وقوع طلاق الغضبان إذا اشتد غضبه،
وبسبب موقفه فى مسائل الطلاق امتُحن ابن تيمية، وثار عليه جمع من العلماء، ومُنع
من الإفتاء، وأوذى، وسجن
.

أرأيت
أن ابن تيمية يريد التخفيف على المسلمين، وأنه يريد استمرار مؤسسة الزواج
والمحافظة على بيوت المسلمين من التشرذم والتفرق، وهو ما ينعكس على المجتمع
الإسلامى بحيث يكون أقرب إلى الضعف والذل والهوان، وهذا هو حالنا الآن، فتحدث حالة
طلاق كل 117 ثانية، أى أقل من دقيقتين تتفرق أسرة ويتشتت أطفال صغار وينحرف الرجال
والنساء، فهل هذا هو المجتمع الإسلامى الذى ننشده؟

وهذا
ما جعل الإمام محمد أبا زهرة يخصص لابن تيمية كتابا، يذكر فيه أننا نهلنا من آرائه
فى قوانين الزواج والوصية..، فقال فى مقدمة الكتاب: “اتجهتُ لدراسته، مستعينا
بالله سبحانه؛ لأن دراسته دراسة لجيل، وتعرف لقبس من النور أضاء فى دياجير الظلام،
ولأن آراءه فى الفقه والعقائد تعتنقها الآن طائفة من الأمة الإسلامية تأخذ
بالشريعة في كل أحكامها وقوانينها، ولأننا نحن المصريين فى قوانين الزواج والوصية
والوقف قد نهلنا من آرائه؛ فكثير مما اشتمل عليه القانون رقم 25 لسنة 1929م مأخوذ
من آرائه، مقتبس من اختياراته، وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها فى قانونى
الوقف والوصية من أقواله
“.

وبالعودة
إلى الاختلاف الثانى الذى ذكره المأمون للمُرتد، فإن هذا الاختلاف ليس اختلافا فى
الكليات، وذلك لأن المسلمين متفقون على أصل التنزيل وعلى عين الخبر، فنحن نؤمن بأن
النبى صلى الله عليه وسلم رسول من رب العالمين، ونؤمن بأن الصلوات الخمس “فرائض”،
وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وإذا آمن المسلم بهذا فهو يكفيه، وأما
الاختلافات الأخرى فهو ليس بحاجة إليها، أما الاختلاف فى تأويل آى القرآن فهذا مما
لا شك فيه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقم بتفسير القرآن الكريم، وترك
تفسيره لمن يأتى بعده، ولهذا فإنه صالح لكل مكان وزمان، وإلا فقل لى هل يمكن أن
يفسر النبى صلى الله عليه وسلم لقومه الاكتشافات العلمية التى تحدث فى عصرنا
الحاضر وتؤيد نص القرآن؟ لا يمكن أن يحدث هذا. وبناء عليه، سيأتى أناس آخرون من
بعدنا يفسرون القرآن الكريم تفسيرا يكون صالحا لزمانهم، كما أنه صالح لزماننا، كما
أنه كان صالحا فى الماضى، وكما تقبله العرب وقت نزوله، فهو المعجزة الخالدة
.

وإلى
النص الذى أورده ابن قتيبة فى كتابه “عيون الأخبار
“:


قال المأمون للمُرتد إلى النصرانية، خبِّرنا عن الشىء الذى أوحشك
عن ديننا بعد أُنسِك به واستيحاشك مما كنت عليه؛ فإن وجدت عندنا دواءَ دائك
تعالجتَ به، وإن أخطأ بك الشفاء ونَبَا عن دائك الدواء كنت قد أعذرت ولم ترجع على
نفسك بلائمة، وإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، وترجع أنت فى نفسك إلى الاستبصار
والثقة وتعلم أنك لم تقصِّر فى اجتهاد ولم تفرِّط فى الدخول من باب الحزم؛ قال
المرتد: أوحشنى ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم؛ قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما
كالاختلاف فى الأذان، والتكبير فى الجنائز، والتشهُّد، وصلاة الأعياد، وتكبير
التشريق، ووجوه القراءات، ووجوه الفتيا، وهذا ليس باختلاف، إنما هو تخيُّر وسعةٌ
وتخفيفٌ من المحنة، فمن أذَّن مَثْنَى وأقام مثنى لم يخطِّئ من أذَّن مثنى وأقام
فُرَادى، ولا يتعايرون بذلك ولا يتعايبون، والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا فى تأويل
الآية من كتابنا، وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين
الخبر، فإن كان الذى أوحشك هذا حتى أنكرتَ هذا الكتابَ، فقد ينبغى أن يكون اللفظ
بجميع التوراة والإنجيل متَّفقا على تأويله كما يكون متّفقا على تنزيله، ولا يكون
بين جميع اليهود والنصارى اختلاف فى شىء من التأويلات؛ وينبغى لك ألَّا تَرْجع إلا
إلى لغةٍ لا اختلافَ فى تأويل ألفاظها؛ ولو شاء الله أن يُنزِل كتبه ويجعل كلام
أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنَّا لم نر شيئا من الدِّين
والدُّنيا دُفِع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة،
وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بَنَى اللهُ الدُّنيا. قال
المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن المسيح عبد، وأن محمدا صادق، وأنك أمير
المؤمنين حقا
“.

 ش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى