د. أشرف سيد يكتب: ماذا بعد .. خسائر الحرب في لبنان؟
د. أشرف سيد
تتزايد الخسائر الاقتصادية والتجارية فى لبنان يوميا وسط التصعيد الأخير بين إسرائيل من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى؛ مع استمرار الحرب والتى تعدت 200 يوم ومازالت مستمرة من دون أفق للحل، فمن المتوقع أن يواجه النشاط الاقتصادي ضغوطاً غير مسبوقة بسبب العمليات العسكرية، فكان الاقتصاد اللبناني يعاني بالفعل من تدهور بسبب أزمتي الديون وقطاع المصارف، وألحق التصعيد العسكري في منطقة الجنوب اللبناني أضراراً كبيرة بالقطاعات الحيوية مثل: الزراعة والسياحة؛ ما من شأنه أن يفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الداخل اللبناني. فإلى جانب الأزمات السابقة تسببت التطورات الأخيرة في حركة نزوح كبيرة قدرت بالآلاف تجاه سوريا، مما يحمل سوريا أعباء مالية واجتماعية جديدة، تتجلى مظاهرها في زيادة الضغوط التضخمية والضغط على الخدمات العامة.
وليس هناك دليل على خضم ما يعانيه لبنان من ضغوط اقتصادية ممتدة، أكثر مما أشار إليه البنك الدولي سابقاً بأن “الأزمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها لبنان تأتي ضمن الأزمات الاقتصادية الأسوأ على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر”، وتتجلى مظاهر الأزمة في انكماش حجم الاقتصاد اللبناني على مدار خمس سنوات، على خلفية ركود غالبية القطاعات الاقتصادية، وعلى الأخص قطاع الخدمات بما في ذلك السياحة.
وقد انكمش حجم الاقتصاد اللبناني بنسبة 38% في الفترة بين عامي 2018 و2022، متراجعاً من 54.9 مليار دولار إلى نحو 21 مليار دولار في الفترة المذكورة، واستمر هذا الأداء السلبي حتى العام الماضي، فقد سجل الاقتصاد اللبناني نمواً سلبياً بنسبة 0.2% في عام 2023، بعد نمو صفري في عام 2022 وبسبب فجوة النقد الأجنبي بسوق الصرف، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها في السوق الموازية منذ عام 2019؛ مما أضعف قدرة المواطنين الشرائية بشكل كبير. في هذه الأثناء أيضاً، ارتفع معدل الفقر في لبنان من 12% في 2012 إلى 44% في عام 2022.
كما تفاقمت أزمة الديون في لبنان وبلغت ذروتها عندما تخلفت الحكومة اللبنانية عن سداد مستحقات السندات الأجنبية المستحقة في 9 مارس 2020 بما مقداره 1.2 مليار دولار، ويتحمل لبنان أعباء مديونية تبلغ ثلاثة أضعاف حجم ناتجة المحلي، ففي عام 2022 بلغ رصيد الدين الخارجي الإجمالي نحو 67.1 مليار دولار (أو ما يعادل 309.2% من الناتج المحلي لعام 2022، البنك الدولي)، إضافة إلى الأزمة السابقة جاء التصعيد العسكري بين إسرائيل من جهة وحزب الله وإيران من جهة أخرى؛ ليفرض مزيداً من التحديات على الاقتصاد اللبناني المتعثر وقد ألحقت العمليات العسكرية في جنوب لبنان أضراراً ملحوظة بقطاعي السياحة والزراعة هناك، ولم تقتصر تلك الخسائر على منطقة الجنوب اللبناني، بل امتد تأثيرها لكافة أنحاء البلاد.
وتؤدي الزراعة دوراً حيوياً في الاقتصاد اللبناني؛ إذ يشكل القطاع الزراعي نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي وتمثل الزراعة النشاط الاقتصاد الرئيسي لدى كثير من بلدات الجنوب، بحصة تصل 80% من ناتجها المحلي سنوياً، ومنذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023 وحتى 12 سبتمبر الماضي، تعرضت الأصول الزراعية لتدمير جزئي أو كلي، وأثرت العمليات العسكرية الإسرائيلية والتي دفعت المزارعين لهجران أراضيهم، في إنتاج العديد من المحاصيل الزراعية خاصة قطاع التبغ، وهو المحصول النقدي الرئيسي بالمنطقة، وفي المجمل قدرت خسائر القطاع الزراعي منذ بداية حرب غزة وحتى يونيو الماضي بنحو 3 مليارات دولار وفق حسابات وزارة الاقتصاد اللبنانية، وهي مرشحة أن تتضاعف في ظل التصعيد العسكري الأخير.
وبينما كان قطاع السياحة اللبناني في طريقه للتعافي بعد عدة أعوام من الانكماش، بات يواجه الآن رياحاً معاكسة خاصة مع تعليق العديد من الشركات الأجنبية رحلاتها من وإلى لبنان، إلى جانب تحذير العديد من الحكومات الأجنبية من السفر إلى لبنان، فقد بلغ عدد السائحين الوافدين إلى لبنان نحو 1.6 مليون سائح في عام 2023، بنمو نسبته 13.7% على أساس سنوي، مقارنة بــ1.4 مليون سائح في عام 2022. بينما بحلول النصف الأول من العام الجاري، بلغ عدد السياح الوافدين إلى لبنان نحو 630 ألف سائح، بانخفاض بنسبة 16.1% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023.
ووفق التقديرات الأولية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فمن المقدر أن ينكمش الاقتصاد اللبناني في ظل توقف النشاط السياحي والزراعي وغيرهما، بنسبة 7.2% بنهاية عام 2024 وهو معدل مرشح للزيادة بنهاية العام الجاري وإذا ما أضفنا التكاليف غير المباشرة أي البنية التحتية المدمرة، فقد تزيد خسائر الاقتصاد اللبناني إلى نحو 10 مليارات دولار أو أكثر (ما يقترب من نصف الناتج المحلي اللبناني).
ويتمثل السيناريو الأكثر تشاؤماً للاقتصاد اللبناني أن تستمر التوترات الأمنية حتى العام المقبل، فكلما طال أمد الصراع، كلما زادت حدة خسائر الاقتصاد اللبناني، وسيصاحب ذلك بالتأكيد مزيداً من تراجع سعر صرف الليرة، وارتفاع التضخم وعلى الأرجح أن تزيد الأوضاع الأمنية من احتمالية زيادة الفقر والبطالة وتدهور مستويات المعيشة أيضاً.
لذا، يمكن القول بأن التصعيد العسكري في منطقة الجنوب اللبناني سيفرض ضغوطاً اقتصادية لن تقتصر على الاقتصاد اللبناني فقط، وإنما ستمتد لباقي دول المنطقة خاصة سوريا ولتفادي حدوث سيناريو أسوأ للاقتصاد اللبناني ومزيد من تفاقم الأوضاع الإنسانية هناك، يقتضي الأمر توفير المؤسسات الدولية والحكومات مساعدات دولية عاجلة ومستدامة للحكومة اللبنانية، من أجل مساندة اقتصادها أثناء فترة الصراع الراهن.